سمير صالحة
تتمسك إيران باللعب على تناقضات الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية في الإقليم وهي نجحت في أكثر من مكان بتسجيل اختراقات في هذا الاتجاه. الملف اللبناني في مطلع الثمانينيات كان ورقتها الأولى عبر دعم الشيعة هناك وإطلاق يدهم للهيمنة على القرار السياسي والأمني في لبنان تحت ذريعة دعم المقاومة في معركتها ضد إسرائيل. وسعت إيران نفوذها لاحقا على خط الداخل العراقي بعد حربها الطويلة التي فتحت الطريق أمامها إلى بغداد على مرحلتين، ما قبل سقوط نظام صدام حسين وما بعد إسقاطه أميركيا وتسليم واشنطن كثيرا من أوراق اللعبة لطهران هناك مقابل إضعاف السنة وتحويل طهران إلى ورقة تهديد تلعبها ضد حلفائها وشركائها في منطقة الخليج.
فتح نظام بشار الأسد الطريق أمام طهران في العقدين الأخيرين كداعم له في معركة الدفاع عن عروبة سوريا بضوء أخضر روسي طالما أن التوغل الإيراني يسهل مهمة موسكو في بسط نفوذها هناك. واصلت طهران تمددها باتجاه اليمن وهي تريد اليوم أن تفرض نفسها على المعادلة السياسية والأمنية هناك مهما كان الثمن الواجب على الشعب اليمني دفعه لإرضائها.
تحول "البعبع" الإيراني إلى ورقة تقاسم نفوذ روسي أميركي في المنطقة تلعب حتى ضد شركاء وحلفاء للطرفين ضد تركيا في سوريا والعراق تحديدا وضد إسرائيل في سوريا ولبنان أكثر.
حولت إيران ميليشياتها المحلية في دول المنطقة إلى قوات ضاربة مجوقلة تنقلها حسب الحاجة من لبنان والعراق واليمن أو خلايا تتحرك في الداخل الخليجي لدعم سياساتها اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية. وبدأت تملأ الفراغ على طريقتها المعهودة بالترغيب والترهيب لتتوغل مذهبيا وعقائديا وتفرض نفسها أمام طاولات بناء الدول سياسيا واقتصاديا من جديد وبما يلائمها. لا غرابة اليوم في أن نسمع ونقرأ أن إسرائيل تهاجم الأهداف الإيرانية في العمق السوري وطهران تقول إن ما يجري لا يعنيها بقدر ما يعني الأسد الذي لا يرد. وكأنها تقول إن المسألة تعني السوريين في دمشق تحت سيطرة النظام أو تحمل الروس المسؤولية لأنهم هم من يعرقل رد النظام على إسرائيل. ولا غرابة أيضا أن نسمع ونقرأ أن طهران وليس موسكو هو الطرف الذي يقود الوساطة بين النظام في دمشق ومجموعات قسد لتوحيد الصفوف في مواجهة "العدو" المشترك تركيا.
السيناريو يكرر نفسه أكثر من مرة وفي أكثر من مكان. قبل أشهر هددتنا مجموعات الحشد الشعبي العراقية المحسوبة على إيران بالتحرك نحو شمال العراق لمقاتلة القوات التركية هناك. طهران تمول وتدرب وتجهز عناصر حزب العمال في سنجار باتجاه الهيمنة على منطقة تقاطع الحدود العراقية السورية الموقع الاستراتيجي الذي تريده تحت رعايتها، وهو ما يقلق القيادات الكردية في أربيل قبل أن يقلق أنقرة.
لماذا انتفضت قيادات سنية لبنانية ضد ممارسات حزب الله الذي يحاول نيابة عن طهران قيادة ملف الغاز والموانىء والتسليح في لبنان؟ ولماذا بدأنا نسمع أصواتا جديدة تتعالى في بيروت تطالب أولا بمساءلة الدولة اللبنانية عن الغطاء القانوني والسياسي والأمني الذي يسمح بتوجه مجموعات حزب الله للقتال في سوريا؟ ولتدعو إلى حسم ملف اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بعد التطورات العدلية الأممية الأخيرة باتجاه تنفيذ أحكام معاقبة المسؤولين عن الجريمة؟ سنة لبنان في حالة غليان. قيادات شيعية عراقية غاضبة بسبب التموضع الإيراني فوق القرار السياسي والحكومي في البلاد. ونحن لا نعرف تماما كم هو عدد العمليات الأمنية التي ينفذها جهاز الاستخبارات التركي بالتنسيق مع الموساد في مواجهة خلايا إيرانية تتحرك في المدن التركية ؟ لكن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة يقول إن "إيران لطاما اعتبرت الحل السياسي هو الطريق الوحيد لحل الأزمة اليمنية انطلاقا من رؤيتها الاستراتيجية وسياساتها المبدئية، واستخدمت كل طاقتها لتحقيق السلام العادل على أساس حقائق اليمن".
من سيقف إلى جانب من في مواجهة إقليمية إيرانية تتفاعل يوما بعد آخر وكانت تدور حتى الأمس القريب بشكل غير مباشر؟ وكيف ستتعامل إيران مع سيناريو إقليمي جديد بدأ يظهر إلى العلن ويستهدف الميليشيات المحسوبة عليها في لبنان وسوريا والعراق واليمن ويطول مباشرة هذه الأذرع التي تحارب بوساطتها دول المنطقة؟ كيف ستتصرف واشنطن وموسكو إذا ما حصل التصعيد أو الانفجار على أكثر من جبهة تتمسك طهران بتقديم مصالحها وحساباتها فيها مهما كان الثمن والأسخن بينها هو الجبهات اللبنانية والسورية والعراقية في هذه الآونة؟ هل من الممكن الفصل بين الممارسات الإيرانية وبين استعدادات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للتحرك قبل قدوم بايدن إلى المنطقة، باتجاه القاهرة وعمان وأنقرة والاتصالات الخليجية الخليجية المكثفة؟
رفعت الإدارة الأميركية من مستوى توتير علاقاتها مع طهران ولوحت بأسلوب العودة مجددا إلى تفعيل خيارات العقوبات مع الإعلان عن زيارة الرئيس جو بايدن المرتقبة إلى المنطقة في الشهر المقبل. ردت إيران على الفور ولكن ليس على الموقف الأميركي الجديد ، بل على الاصطفاف الإقليمي الحاصل ضدها والذي يهدد أمنها ومصالحها الإقليمية كما تقول. هذه الأسطوانة سمعناها أكثر من مرة في الأعوام الأخيرة على خط واشنطن – طهران. ولم تعد تصرف في المنطقة طالما أن قيادات البيت الأبيض تلعب على كل الحبال في موقف غير قابل للنقاش. كل ذلك يسير مواكبا للجولة التي يعد لها الرئيس الأميركي في المنطقة. احتمال أن يصل متأخرا كالعادة وكما تفعل واشنطن دائما. هو يصل على الأقل بعد التحليلات وتقديرات الموقف التي بدأنا نقرؤها ونسمعها حول "ثورة السنة" على إيران في الإقليم ومسؤولية واشنطن بسبب مواقفها السلبية في إيصال الأمور إلى ما هي عليه.
يأتي بايدن وسط مجموعة أسئلة تطارده بينها لماذا وكيف تجد تل أبيب وأنقرة وبعض العواصم العربية نفسها في خندق واحد ضد إيران وسلوكها وتصرفاتها في المنطقة؟ هل يحضر للتوسط باتجاه تخفيف الضغط المتواصل على إيران أم لقطف ثمار السياسات الإقليمية المتصاعدة في مواجهتها؟ إما أن أميركا شريك متواطئ وإما أنها تحفر حفرة في العمق لاصطياد إيران عبر توريطها أكثر فأكثر في الملفات الإقليمية. الإجابة سيساعدنا عليها معرفة موقف البيت الأبيض في الأيام المقبلة وكيف ستحسم مفاوضات الملف النووي الإيراني التي تقلق شركاء أميركا في المنطقة من عرب وأتراك وإسرائيليين .
سمعنا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يقول إن "إيران تسعى لتقسيم العراق وسوريا، وتتصرف من منطلقات عرقية. وسمعنا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو خلال مؤتمر ميونخ الأمني، يتهم إيران بنشر التشيع في سوريا والعراق. المواجهة التركية الإيرانية في سوريا والعراق وفي ملفات إقليمية حساسة لم تحسم ولم تنته. العكس هو الصحيح اليوم. ساحات خلاف وتباعد متزايد كانت تنتظر قدوم وزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة لكنه ألغى زيارته دون الإعلان عن الأسباب المعروفة أساسا. التقارب والتنسيق التركي العربي الجديد، التطبيع التركي الإسرائيلي والتنسيق الاستخباري المتزايد في مواجهة محاولات الاختراق الإيرانية للمدن التركية لاستهداف المواطنين الإسرائيليين وتجنيد عملاء والتجسس على المعارضة الإيرانية الناشطة في تركيا واستهداف الموسم السياحي التركي ملفات تتحكم بالمواقف والقرارات التي ستعتمدها أنقرة في سياستها الإيرانية الجديدة كما يبدو.
الموضوع الإيراني سيتصدر بكل تأكيد كل ملفات التفاوض والحوار الإقليمي العربي التركي الإسرائيلي. لكن المفاجأة التي ستحصل ستكون في تحولات المواقف الأميركية والروسية حيال ما يجري وسيناريوهات العلاقة مع إيران. هناك تحركات وسياسات فيها كثير من البراغماتية وهي تفتح الطريق أمام مشهد إقليمي جديد سببه الأول والأخير ما تقوله وتريده طهران في المنطقة.
إضعاف النفوذ الإيراني الذي تحول إلى خطر يهدد مصالح وأمن دول المنطقة هو الذي قرب بين قياداتها وعواصمها. واشنطن وموسكو يدركان أن الأمور تختلف عن السابق هذه المرة. ملفات الأزمات الإقليمية والدولية التي تركت الطرفين وسط متاريس سياسية وأمنية واقتصادية جديدة هي التي ستجبرهما على تبني ما تقوله وتريده دول المنطقة اليوم في مواجهة السياسة الإيرانية الإقليمية.
المصدر: تلفزيون سوريا