د. أسامة عثمان
لم يمانع حافظ الأسد، في إقامة علاقات سلام مع إسرائيل، من حيث المبدأ، ولا كذلك، طبعًا، ابنُه بشار. وقصة التفاوض حول هضبة الجولان، وشروط النظام السوري لذلك الصلح، تبيِّن ذلك؛ إذ حصل في بعض المراحل اقترابٌ كبيرٌ من الاتفاق.
وقد انطلق التفاوض الرسمي المعلن بينهما، منذ مؤتمر مدريد، عام، 1991 حتى 1996، على أساس "مبدأ الأرض مقابل السلام"، وكانت "وديعة رابين" (يونيو/ حزيران 1994) التي وضّح مضمونها رئيسُ وزراء الاحتلال السابق، إيهود باراك بقوله: "نحن نُودِع الأميركيين استعدادًا للانسحاب من الجولان، مشروطًا منّا بتنازلات معيَّنة. يستطيع الأميركيون القول للأسد إنهم يؤمنون بأنه في حال تمَّ ضمان المصالح الأمنية والسياسية لدولة إسرائيل، والقبول بذلك، فإن بمقدورهم أن يدفعوا إسرائيل للاستجابة أيضًا لمصالح الأسد الحيوية، بما في ذلك في هضبة الجولان".
وتكشف مصادر أميركية عن مساومة جادَّة ومعمَّقة حول تفاصيل ما يعنيه الانسحاب الكامل مقابل السلام الكامل، بما في ذلك مدى الانسحاب الإسرائيلي والترتيبات الأمنية، وتطبيع العلاقات، ونزع سلاح الجولان.
كان مقتل رابين 1995، علامةً على ازدياد قوَّة اليمين المتطرِّف، في إسرائيل، وشدّة الرفض لتقديم أيّ "تنازلات" تتعلق بالانسحاب من الأراضي العربية، أو الفلسطينية التي احتُلَّت عام 1967، ولذلك، فإن المؤشِّرات تزايدت بعد ذلك، على استخفاف رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، بالسلام، حين رسّخ مفهومًا بديلًا، قائمًا على "مبدأ السلام مقابل السلام". ووفق ذلك رجَّحت دراساتٌ أنَّ هذا الاتجاه الإسرائيلي المتطرِّف كان يعتقد، (ولا يزال) أنّ سوريا، ربما في ظل ظروف جيوسياسية مختلفة، ستوافق على اتفاق سلام بأقلّ من الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان.
وكان آخر جهدٍ جادّ لإرساء السلام، في عهد حافظ الأسد، تعثّر في مارس/ آذار2000 مع اجتماع قمّة فاشل، في جنيف بين الرئيس الأميركي، آنذاك، بيل كلينتون والرئيس السوري حافظ الأسد.
وفي ربيع عام 2011، أدّت المفاوضات السِّرية (وفق فريدريك سي هوف، الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية؛ مؤلِّف كتاب "الوصول إلى المرتفعات") التي توسَّطت فيها الولاياتُ المتحدة بين إسرائيل وسوريا إلى جعل العدوَّين يقتربان، بشكل مثير، من حافة السلام، وهي نتيجة كان من الممكن أنْ تؤدِّي إلى تسوية عربية إسرائيلية أوسع وإعادة تشكيل الخطوط السياسية للشرق الأوسط". ففي في فبراير/ شباط 2011، عقد هوف اجتماعًا انفراديًّا مع بشار الأسد، في دمشق؛ لتحديد ما إذا كان سيوافق تمامًا على المتطلَّبات الأمنية لإسرائيل، بما في ذلك قطع العلاقات العسكرية مع إيران وحزب الله. وفيه أكّد الأسد لهوف أن حزب الله "سوف يسير في الصف" بمجرّد إعلان إسرائيل وسوريا عن اتفاقية سلام. كما قال إن السلام مع إسرائيل "شأن لسوريا وليس إيران".
واليوم، يتأرجح نظام الأسد بين آماله في استعادة التأهيل، دوليًّا، وعربيًّا، ومتطلّبات هذا الهدف، وبين الاستمرار في التخلِّي عن جزءٍ مهم من سيادته وقراره لإيران، وأثمان هذا الاستلاب.
وبرغم أن نظام الأسد لا يجد غضاضة في التواصل بين أنظمة عربية بلغت مستوى عاليًا من التطبيع مع دولة الاحتلال، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية، وبين اعتماده العميق على إيران وحزب الله، في الوقت نفسه، إلا أن المرحلة الراهنة قد لا تسمح له بالاستمرار في هذا التموضع غير الطبيعي.
ولا بد أنه يقدِّم إشاراتٍ، سرّية في الأكثر؛ لاستبقاء باب المصالحة مع إسرائيل مفتوحًا. وقد ألمحت وسائل إعلام عبرية إلى هذا النهج. فبعد قصف إسرائيل مطار دمشق الدولي، وتعطيله، سرّب مسؤولون إسرائيليون، لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أنَّ إسرائيل قرَّرت رفْعَ درجة ضرباتها للنظام السوري وقوّاته؛ لأنها ترى أن الأسد قرَّر اللعب على حبلين. فمن جهة يبثُّ إشاراتٍ إلى أنه غير معنيٍّ بالبقاء في حلفه مع إيران، ويريد التحرُّر من قيوده ومخططاته، ومن جهة ثانية يواصل إخضاع بلاده إلى الخطط الإيرانية وإتاحة الفرصة لنقل الأسلحة والمعدَّات إلى حزب الله اللبناني، ويتيح للميليشيات الإيرانية الانتشار في بلاده، والاقتراب من الحدود مع إسرائيل في الجنوب".
فالأسد لا يقطَع مع الحبل الإسرائيلي، ولا مع نظُمٍ عربية أضحت وثيقة الصلة به، سياسيًّا، وأمنيًّا، واقتصاديًّا، وحتى أيديولوجيًّا.
وهنا يلعب الموقف الدولي دورًا مهمًا، وموقف أميركا وروسيا، تحديدًا، أما روسيا فلا يبدو أنها تغيّر موقفها، جوهريًّا، بعد الحرب في أوكرانيا، لجهة منع دولة الاحتلال من تنفيذ أهدافها على الجغرافيا السورية، كما يبدو، من تجرؤ قادة إسرائيل على رفع مستوى الهجوم، والاستهداف، ورفع مستوى الخطاب التهديدي. كما أن موسكو يهمُّها أنْ تلعب أيّ دور، كتقريب سوريا من إسرائيل، من شأنه أن يلبّي طموحها لدور عالمي، وتأثيرها في الإقليم.
أما أميركا فهي أكثر اهتمامًا بترسيخ كيان دولة الاحتلال في المنطقة، والاستمرار في دمجها في المنظومات الأمنية، وفي المشروعات الاقتصادية. وعليه يدرك الأسد أن ثمن الاعتراف الأميركي به، مجدّدًا، مِن ضمنه التقارُب مع إسرائيل.
والسؤال: ماذا تكسب إسرائيل من استمالة سوريا، وماذا يكسب نظام الأسد من الدعم الإسرائيلي المفترَض؟
تكسب إسرائيل تحييد سوريا عن الصراع، وإبعادها عن إيران، وحلفائها، سوريا بموقعها البالغ الأهمية جيواستراتجيا، حينئذ تقطع التواصل الجغرافي بين إيران، مرورا بالعراق، إلى لبنان. فضلًا عن المكاسب الاقتصادية، وَفْق حرارة السلام المفترَض.
لكن نظام الأسد سيكون في حالة استسلامٍ شبه كاملة، إذا قبل بشروط إسرائيل التي بالضرورة ستكون أكثر إجحافًا، بل إذلالًا، بعد أن نجح نتنياهو في إرساء "مبدأ السلام مقابل السلام"، وبعد اعتراف أميركا، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بضمِّ إسرائيل مرتفعات الجولان إليها، وهي الخطوة التي لقيت ثناءً من مختلف الأطياف السياسية في إسرائيل. ولم تتراجع إدارة بايدن عن هذا الاعتراف. وبعد تنامي قوة اليمين الديني المتطرِّف، وزيادة انخراط دولة الاحتلال في المنطقة العربية وفي الإقليم.
كل ذلك يصعّب مُضيَّ الأسد في أيِّ مسار تصالُحي علني مع إسرائيل، في هذه المرحلة، على الأقل، في ظلّ تغلغل النفوذ الإيراني. إلا أن ضعف نظامه يعزّز (سياسة السَّمَاح) لإسرائيل، مع إشراف روسيا المباشر والفعلي على رسْم مسارات النشاطات الإسرائيلية، والأسد، تاليًا، لا يقوى على أكثر منْ أنْ يترك سوريا ومقدَّراتها ساحةَ حربٍ سِجاليّة، بين إسرائيل وإيران، في حين أن الأخيرة ليست فقط لا تقوى على الوفاء بما يترتَّب على استخدامها للأراضي السورية، ملعبًا، وجسرًا، لأهدافها، وإنما لا تكاد تقوى حتى على وقْف الاستهدافات الإسرائيلية المتكرِّرة، (حتى الآن) على أرضها، وفي عُقْر عاصمتها.
المصدر: تلفزيون سوريا