صحافة

إنذار الشمال.. حتى لا تكون ثورة على الثوار

الخميس, 9 يونيو - 2022
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

العقيد عبد الجبار عكيدي 


تزامنُ المظاهرات المتصاعدة احتجاجاً على رفع أسعار الكهرباء وسوء المعيشة وفساد المؤسسات في مناطق عفرين ومارع والباب وغيرها من مدن الشمال المحرر، مع الحديث المتصاعد أيضاً عن قيام عملية عسكرية مرتقبة تستهدف مناطق منبج وتل رفعت، دفع البعض إلى الاعتقاد بل والتصريح علناً بأن هذه الاحتجاجات لا تحركها مطالب معيشية وإنما هدفها إثارة الفوضى والبلبلة وإحداث نوع من الاضطراب المجتمعي داخل تلك المناطق، بل ذهب موقع شركة الكهرباء إلى أبعد من ذلك بوصم المتظاهرين بالإرهابيين، ولعل هذا النوع من التفكير ينسجم تماما مع نظرية المؤامرة التي تتخذها السلطات الديكتاتورية سلاحاً في وجه أي مواطن يبدي احتجاجا على سلوكها. 

المتتبع لسيرورة هذه الاحتجاجات سيجد أنها ليست وليدة اللحظة، بل كانت كالنار التي تسري في الهشيم وعندما بلغت المعاناة الاقتصادية في هذه المناطق درجة يصعب احتمالها انطلقت تلك الشرارة وأصبح من العسير إطفاؤها، وباتت مظهراً مألوفاً في مناطق عديدة من الشمال السوري وليست محصورة بمنطقة أو بمطلب جزئي محدد، أو ردة فعل على حادثة بعينها، وإنما هي في سياقها العام نتيجة لعوامل عديدة وتراكمات يتداخل فيها الجانب الأمني مع الجانب المعيشي مع الجانب الأخلاقي.

ما حدث في مدينة الباب يوم الثامن عشر من الشهر المنصرم من ردة فعل ثورية هزت وجدان الجماهير حيال ارتكاب أحد الكيانات الأمنية خطأ أمنياً فادحاً بإطلاق سراح عنصر كان يخدم في جيش النظام سبق أن ارتكب جرائم حرب بحق السوريين، لم تكن مظاهرة احتجاجية عابرة فحسب بل يمكن التأكيد على أنها منعطفاً وإن كان رمزياً لكنه يحمل في طياته مدلولات ناصعة التعبير، لعل من أبرزها أن جذوة الثورة ما تزال هي المعيار الناظم للسلوك أو هكذا يجب أن يكون. 

وثاني المدلولات يمكن أن تكون رسالة شديدة الوضوح إلى القائمين على السلطة وكافة إداراتها في تلك المناطق، توضح أن السوريين الذين يعانون أشد حالات البؤس المعيشي والاجتماعي لن يكون وضعهم المعيشي الصعب وصبرهم على المعاناة حائلاً أمامهم دون السعي وبشتى الوسائل لتحقيق أهداف ثورتهم، إذ إن الرفض الجماهيري للتهاون مع العملاء إنما يجسد ببساطة حرص الثائر السوري على حصانة الثورة من أي خرق خارجي يهدد قيمها ومبادئها. 

ما ينبغي التأكيد عليه أن معالجة تلك المظاهر يستوجب البحث في الأسباب، فما جرى كان نتيجة لمسار طويل من تجاهل السلطات المحلية لمطالب الناس، ومنهجاً في التفكير والسلوك معاً اعتادت عليه تلك السلطات، وأبرز مظاهره عدم الاهتمام برأي المواطن ورضاه بقدر اهتمامهم برضا من قلدهم تلك السلطة، وهنا يمكن الحديث عن فشل منظومة المحاسبة إلى جانب فشل مؤسسات الحوكمة في تلك المناطق. 

ما تم إرساؤه من نظم وإدارات ومجالس محلية لم ينبثق من خيارات شعبية وإنما جاء بإملاءات، وكذلك معظم الكوادر العاملة في تلك الكيانات لم تكن معايير اختيارها تنبثق من نواظم مهنية أو أسس علمية. 

مظاهر التخريب والاعتداء التي طالت بعض المؤسسات والممتلكات العامة، بالتأكيد لا يوجد عاقل يقبل بها، بل يمكن التأكيد على أن مكمن الرقي في أي احتجاج شعبي إنما يكمن في رقي وسائل هذا الاحتجاج وفي مقدمتها الحفاظ على السلمية والالتزام بالانضباط والتعبير عن المطالب بطرق حضارية، لكن إن حدثت بعض الاختراقات فهذا لا يبرر للسلطات القائمة أن ترد باستخدام العنف أو تصف المحتجين بالمخربين والإرهاب، ذلك أن تماسك السلطات الأمنية إنما يكمن في قدرتها على ضبط الانفلات الأمني وليس بالرد بانفلات مماثل، وهنا تظهر هشاشة الجانب المهني لهذه السلطات التي انساقت وراء ردات الفعل بسبب عدم وجود الخبرات والكفاءات في صفوفها. 

ما حدث ينبغي أن يكون انعطافة نحو معالجة ملف الحوكمة في المناطق "المحررة"، فالمواطنون الذين يعيشون في تلك المناطق هم ممن يشعر بأنه قد تحرر من سلطة الأسد، ولديهم شعور عام بأنه يمكن الصبر على بؤس الحياة المادية والمعيشية إذا كان ذلك ينسجم مع أحساسهم بأنهم أحرار محترمون، ولكن الذي لا يمكن أن يصبروا عليه هو أن تتكلل مأساتهم المعيشية بسوء المعاملة وانتشار المحسوبيات وسطوة القوي على الضعيف، عندئذ تصبح مؤسسات إدارة هذه المناطق كيانات تسلطية وليست خدمية.

لعل الإقرار بسلبيات الواقع لا يعني أبدا القبول بها أو الدعوة إلى تأييدها بل يمكن أن يكون دعوة جدية إلى إجراء مراجعات نقدية شاملة تهدف إلى بيان مواقع الخلل والانتقال إلى مرحلة جديدة توازي بجديتها يقظة الثوار السوريين وحرصهم على حصانة الثورة واستمراريتها من خلال: 

أولاً: معالجة أزمة التمثيل التي تعصف بالمؤسسات الرسمية للمعارضة السورية بسبب الفجوة الكبيرة بين تلك المؤسسات وبين مصدر شرعيتها، وهي البيئة الحاضنة للثورة، وهذه العملية تتطلب دمقرطة تلك المؤسسات من خلال آليات تضمن أوسع مشاركة لكافة مكونات المجتمع فيها. 

ثانياً: أن تكون القيادة السياسية لقوى الثورة والمعارضة بعد إعادة معالجة بنية مؤسساتها وإصلاحها، هي المرجعية الأساسية لكافة التشكيلات العسكرية والهيئات والأطر التنفيذية العاملة في المناطق المحررة. 

ثالثاً: يقترن نجاح تلك الآليات بمدى توفر هيئة رقابية ثورية تكون جزءا من مؤسسات المعارضة وتختص بالنظر في المنازعات التي تتم داخل هذه المؤسسات، وتسوية الخلافات بين مختلف التشكيلات السياسية والعسكرية والمدنية، في ظل هشاشة المؤسسة القضائية وغضاضة عودها. 

رابعاً: حث هيئات المعارضة والقوى الوطنية السورية المستقلة من أجل إقامة مؤتمر وطني سوري يعيد رسم الاستراتيجية السياسية لقوى الثورة والمعارضة بسبب الخلل الفادح الناجم عن سلوكها السياسي في المراحل الماضية، ويحدد المؤتمر خطة وطنية لإدارة المناطق المحررة على أسس من المهنية والكفاءة ومشاركة المجتمع المحلي بصورة حقيقية في قرارات الإدارة المسؤولة عن تلك المناطق. 

خامساً: ضبط العلاقة المؤسساتية وتحديد الاختصاصات والصلاحيات ما بين المرجعية السياسية والحكومة المؤقتة التي يفترض أن تتبع لها من الناحية العضوية والوظيفية. 

سادساً: بناء المؤسسات والكيانات الخدمية بناء سليماً قائماً على أسس علمية ومهنية من جانب، وكذلك على أسس ديمقراطية من جانب آخر، فذلك هو البناء الضامن لكرامة الإنسان وحريته، فضلا عن كونه هو الحامل السليم للهدف السياسي، ذلك أن أي تجربة مدنية لا تقاس بشعاراتها السياسية فحسب بل بنجاحها تنظيميا وإداريا. 

لا شك أن مدن الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام بحاجة إلى مشروع تكاملي بين الكفاءات الموظفة وبين أصحاب القرار، وبدون هذا التكامل لا يمكن أن تستقيم أي عملية حوكمة في تلك المناطق، فلئن كانت الفصائل العسكرية وقوى السلاح هي صاحبة السطوة دائماً، فقد حان الوقت لكي يدرك الجميع أن تلك السطوة إذا وظفت في غير مكانها فلن تنتج إلا خراباً مجتمعياً، ولعل السوريين هم أكثر من خبروا ذلك، فسطوة القوى الأمنية لنظام الأسد على مدى خمسين عاما لم تنتج سوى الخوف والرعب والفساد، وكان الرد النهائي على تلك الممارسات هو ثورة السوريين العارمة، لذلك لا نتمنى أن نستنسخ تلك التجربة في شمالنا السوري الذي تحرر بتضحيات أبنائه ودماء شهدائه. 


المصدر "تلفزيون سوريا

الوسوم :