أحمد رحّال
على مدار أكثر من عشر سنوات، شكلت المنطقة الآمنة هاجساً ومطلباً لحاضنة الثورة السورية، كونها ملاذاً آمناً للمدنيين الفارّين من طائرات نظام الأسد وإيران وحزب الله وصواريخهم وبراميلهم. ومع تزايد أعداد اللاجئين إلى تركيا، وتجاوزهم حدودها نحو أوروبا، انضمت تركيا إلى قافلة المطالبين بإيجاد منطقة آمنة، توقف هجرة ملايين اللاجئين العابرين للحدود السورية.
مطالب السوريين، وبعدهم الأتراك، كانت دائماً ما تصطدم بفيتو روسي داخل أروقة مجلس الأمن، كون إنشاء تلك المنطقة يحتاج إلى مظلة قانونية يستتبعها إيجاد آليات مراقبة ومتابعة ورصد ومحاسبة، وقد تحتاج المنطقة الآمنة إلى قوات أممية من قوات حفظ السلام، وذاك أمرٌ يرفضه الفيتو الروسي في مجلس الأمن كونه (حسب الادعاء الروسي) يُنقص من سيادة الدولة السورية، ويعيق مهمّة "الحرب على الإرهاب" التي اتخذتها موسكو شعاراً وجوازاً للعبور إلى سورية ونصرة نظامها في دمشق.
وفي ميثاق الأمم المتحدة، وبمفردات المادة 51 بالتحديد، وجدت تركياً مدخلاً قانونياً يتيح لها تجاوز اتفاقية أضنة المعقودة عام 1998، والمعدّلة عام 2010 مع النظام السوري (تتيح لأنقرة التوغل في عمق حدود الأراضي السورية لمسافة 5 إلى 10 كم في قضايا مكافحة الإرهاب، وكل ما يهدّد الأمن القومي التركي ومن دون حاجة لإذن من دمشق). وتتيح المادة قانونياً لدول مجاورة لدولة فاشلة غير قادرة على ضبط حدودها التدخل وإنشاء منطقة أمنية (وليس آمنة)، تحافظ من خلالها على أمنها القومي، وتمنع الهجمات الإرهابية التي تهدّد مواطنيها، وإن قال بعضهم إن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تشترط ليس فقط أن تكون الدولة فاشلة في حفظ حدودها، بل يجب أن تكون تلك الدولة موضوعةً تحت وصاية الأمم المتحدة، وهذا شرط غير محقّق مع الدولة السورية التي ما زالت تحظى بشرعية دولية وقانونية، رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها نظامها بحق الشعب السوري.
انطلاقاً من تفسيرها، انخرطت تركيا، بمشاركة فصائل الجيش السوري الحر، ولاحقاً "الجيش الوطني"، بأربع عمليات عسكرية منذ عام 2016 عبر عملية درع الفرات، و2017 عندما طردت تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مدينة الباب، وعام 2018 بعملية غصن الزيتون، وآخرها عام 2019 بعملية نبع السلام، التي أوقفها الأتراك بعد تعهدات أميركية - روسية بإبعاد حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وأسلحتهم الثقيلة مسافة 32 كم عن الحدود التركية الجنوبية.
وقد أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن عملية عسكرية مرتقبة على حدود بلاده الجنوبية لإنشاء منطقة آمنة، حيث طالب بتنفيذ اتفاق وتفاهمات عام 2019. وقال إن وعود واشنطن وموسكو لأنقرة، بعد إيقافها عملية نبع السلام في 2019، لم تُطبق على الأرض، وإن إبعاد خصومها عن الحدود لم يتم ولم ينفذ، كما هي وعود أميركية سابقة وعدت أنقرة بإخلاء مدينة منبج من قوات "قسد" وتسليمها لـ"الجيش الوطني". وتهدف أنقرة من عمليتها العسكرية الجديدة، إضافة إلى إنشاء المنطقة الآمنة، القيام بإبعاد قوات "قسد" مسافة 30 كم عن حدودها، وتدمير الأسلحة الثقيلة التي تتهددها، وسحب ورقة الحرب على "داعش" من يد "قسد"، وأخيراً إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى الداخل السوري.
تركيا اليوم، على الرغم من فائض أوراق القوة التي تمتلكها، بما يخص موقفها من الحرب الأوكرانية، وورقة المضائق الدولية (البوسفور والدردنيل)، وورقة إغلاق أجوائها أمام الطائرات الروسية العسكرية، وورقة قرابة ثمانية ملايين لاجئ سوري على أراضيها أو تحت حمايتها في الداخل السوري، إضافة إلى ملف الإرهاب، بعد تعرّض نقاطها العسكرية في الداخل السوري، أو قراها ضمن الحدود التركية لهجمات من "قسد" هدّدت حياة مواطنيها. وعلى الرغم من كلّ تلك الأوراق، تحتاج تركيا إلى توافقات مع موسكو أو واشنطن أو كليهما (كما العادة في العمليات السابقة)، إن أرادت عملية عسكرية في سورية لا تصطدم فيها مع مصالحهما، على الرغم من أنّ تصاعد نبرة تصريحات القادة الأتراك تؤكّد، وبما لا يترك مجالاً للشك، أنّ العملية قائمة لا محالة، بل إن الرئيس أردوغان حدّد جغرافيتها، عندما قال: "ننتقل إلى مرحلة جديدة في عملية إقامة منطقة آمنة من 30 كيلومتراً عند حدودنا الجنوبية، سننظف منبج وتل رفعت من الإرهابيين، وسنعمل خطوة خطوة في مناطق أخرى".
وبسرد جغرافي للمواقع المحتملة للعملية العسكرية التركية المزمعة نجد ثلاث مناطق مؤهلة لأن تكون مسرحاً لمعاركها: منطقة تل رفعت، مطار منغ، حربل. وكانت "قسد" قد سيطرت على مناطق تل رفعت ومنغ ومطارها وحربل وقرى مجاورة في أثناء انشغال فصائل الجيش الحر بقتال تنظيم داعش في مدن مارع ومحيطها بداية عام 2016. وعند قيام "الجيش الوطني" بعملية درع الفرات وغصن الزيتون، حافظت "قسد" على تلك المناطق، بعد إدخال الروس ومليشيات إيرانية نوعاً من التوازن، وقبلت تركيا، من خلال "تفاهمات أستانة" بهذا الواقع، لكنّ تلك المنطقة، وكما تقول أنقرة، تحوّلت إلى جيب يشغله حزب العمال الكردستاني، المعروف بعدائه المطلق لتركيا. وشُنت من خلال هذا الجيب هجمات عدة على مواقع مدنية وعسكرية للأتراك و"الجيش الوطني". وبالتالي، أصبحت تلك المواقع أحد أهم الأهداف للعملية العسكرية التركية المرتقبة.
وفي مجمل العمليات العسكرية التركية داخل سورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، كانت تركيا تصطدم بحماية أميركية روسية لمناطق منبج وعين عيسى وعين العرب، تمنعها، مع حليفها "الجيش الوطني" الاقتراب من تلك المناطق والسيطرة عليها، وكانت قاعدة "خراب عشق" الأميركية مع نقاط انتشار لنظام الأسد وللروس في محيط منبج، ترسم حدوداً لمناورة النفوذ التركي، وأيضاً في "أستانة" كان هناك اتفاق أذعنت له أنقرة بوضع نقاط حرس حدود تابعة لنظام الأسد ما بين عين العرب (كوباني) على الحدود التركية ومدينة تل أبيض. وبذلك، فشلت أنقرة بوصل مناطق نبع السلام مع درع الفرات، نظراً إلى أهمية "كوباني" لدى الأكراد في سورية. وأيضاً التنافس الروسي التركي بالسيطرة على طريق "الإم فور" يدخل في سياقات الرفض الروسي أي عملية عسكرية تركية تستحوذ فيها أنقرة على هذا الشريان الحيوي الذي تطمح إليه موسكو.
ومنذ ضغطت واشنطن على أنقرة لوقف عملية نبع السلام، وتركيا تعتبر أنها خُدعت بوعود أميركية لم تطبق، وهي تسعى إلى تصحيح أخطاء سابقة، لكنّ الموقف الأميركي واضح، برفضه أيّ عملية عسكرية جديدة. وهذا ما قاله المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس: "نتوقع من تركيا أن تلتزم بالبيان المشترك الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2019". وأضاف: "نحن ندرك المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على حدودها الجنوبية، لكنّ أي هجوم جديد سيزيد من تقويض الاستقرار الإقليمي، وسيعرّض للخطر القوات الأميركية المنضوية في حملة التحالف ضد تنظيم داعش".
يشترك الموقف الأميركي الرافض مع موقف روسي لا يختلف عنه برفض أيّ عملية عسكرية تركية، والحديث التركي عن حاجة تركية لمنطقة مترابطة ما بين مناطق نبع السلام ودرع الفرات وغصن الزيتون لإسكان مليون سوري (وتوطينهم)، ستتم إعادتهم (طوعاً) من تركيا، قابله عرض أميركي بأن تكون الوجهة لإسكان هؤلاء في مدن خان شيخون ومعرّة النعمان وسراقب في ريف إدلب، بعد تحريرها من قبضة نظام الأسد والروس وإيران، دونما الحاجة لإعمار وبناء، باعتبار تلك المدن شبه مؤهلة لاستيعاب تلك الأعداد من السوريين.
وميدانياً كانت هناك زيارات تركية أميركية مشتركة للحدود السورية، ومعلومات عن عودة القوات الأميركية لتشغل قاعدة "خراب عشق" في جنوب مدينة عين العرب التي أخلتها أميركا في مرحلة سابقة، والعودة الأميركية شكلت رسالة واضحة لأنقرة برفض أي عمل عسكري في مناطق منبج وعين العرب وعين عيسى وكامل شرق الفرات.
أيضاً، وبعد رفض إيران أي عملية عسكرية تركية جديدة، قام الروس بتعزيز نقاط وجودهم في قاعدة عين عيسى في شمال مدينة الرّقة. وفي مطار القامشلي الذي يضمهم مع مليشيات من الحرس الثوري الإيراني. وتلك أيضاً رسالة روسية إلى أنقرة، أنه وعلى الرغم من الوفاق الكامل والرضا الروسي الكامل عن مواقف أنقرة أخيراً، بما يخص الحرب الأوكرانية والتنسيق في أستانة بما يخص الملف السوري، لكنّ موسكو ترفض قطعياً أي عملية عسكرية تركية جديدة، رغم أنّ معلومات غير مؤكدة أفادت بانسحاب روسي من مناطق تل رفعت ومنغ، لكنها لا تعني موافقة روسية على أي تغيير في خرائط النفوذ في سورية.
وتدرك قوات سورية الديموقراطية أنّ حلفاءها في اللحظات الحرجة دائماً ما يبتعدون ويتركونها لمصيرها، باستثناء بعض الضغوط السياسية. مع ذلك، رفعت هذه القوات جاهزيتها، ونقلت عددا من ألويتها من منطقة الباغوز، إضافة إلى عناصر من القوات الخاصة تدربوا أخيرا على يد التحالف الدولي قرب قواعد التحالف في حقل العمر ومعمل كونيكو شمال دير الزور، لكن الأميركيين أوصلوا رسالة واضحة لقيادة "قسد": "عليكم عدم استفزاز الأتراك والجيش الوطني، والتوقف عن أي استهداف لمواقعهم العسكرية أو داخل الأراضي التركية".
... تقرأ تركيا الواقع السياسي والتغيرات الإقليمية الحالية جيداً، فالموقف الإقليمي والدولي لا يحتمل تسخين ساحاتٍ أخرى، بعد الذي يحصل في أوكرانيا، وتدرك معها أنقرة أيضاً أنّ العودة إلى سياسة الوزير السابق أحمد داود أوغلو "سياسة صفر مشكلات مع الجوار" تتطلب الحكمة في اتخاذ القرارات. وتدرك أيضاً أنّ زياراتها الأخيرة، وانتهاج دبلوماسية جديدة مع الإمارات والسعودية ومصر تحتاج نفسا وصبرا طويلين. وتدرك أنقرة أن الفيتو الأميركي والروسي لأي عمل عسكري جديد ما زال هو الأوضح. لذلك، برغم كلّ الحشود العسكرية التركية التي وصلت إلى ولاية أضنة، واعتبارها نقطة تجميع وخط انطلاق لبدء عملية عسكرية في سورية قد تشمل مدينة القامشلي (وفق مصادر تركية)، فقد يكون تأجيل العملية أو تأخيرها، وفقاً لمصادر تركية، يهدف إلى إعطاء واشنطن وموسكو فرصة أخيرة لمراجعة تعهداتهما وتفاهماتها مع أنقرة وتطبيقها، ولو متأخرة. وفي المقابل، قد تعلن أنقرة، عند ملامسة المخاطر حدود أمنها القومي أو تجاوز خطوطها الحمراء، بدء عمليتها، حتى وإن على بقعة محدودة، ولن تنتظر الموافقة من أحد.
هل تتروى أنقرة أكثر لتقطف ثماراً سياسية وانتخابية بعد تصعيدها وتهديدها بعمل عسكري على كامل حدودها الجنوبية بديلاً عن مغامرة عسكرية قد لا تكون محسوبة النتائج، أم أنّ صبر أنقرة وصل إلى نهايته، وأصبح الكيّ آخر العلاج؟
المصدر: العربي الجديد