غزوان قرنفل
ليست العنصرية والشعور المخادع بالتفوق على الآخر المغاير سمة خاصة لمجتمع أو دولة بعينها.. العنصرية موجودة بمستويات مختلفة في أغلب المجتمعات البشرية إن لم يكن فيها كلها، ولكن تختلف مستوياتها وحدتها وأسباب تناميها وتوحشها أحيانا بين مجتمع وآخر تبعا لمستويات الرقي المعرفي والثقافي في تلك المجتمعات وتبعا أيضا لمستويات الانفتاح ومخالطة شعوب وثقافات أخرى.
العنصرية في تركيا لا تخرج بطبيعة الحال عن هذا السياق.. هي موجودة وكامنة أصلا لدى قطاع لا بأس به من المجتمع، تكمن أو تطل برأسها بين حين وآخر تبعا لظروف وصعوبات معينة يواجهها هذا المجتمع فيتصرف قطّاع منه بنزق ونبذ لآخر يعتقد أو يريد أن يحمله عبء وأسباب تلك الظروف التي اعترضت سياق حياته الرتيبة التي اعتاد عليها، وهو ربما الحل الأمثل الذي يراه العنصريون في النأي بأنفسهم عن تحمل تلك المسؤولية أو تحميلها لمؤسسة السلطة التي تحكم والتي ربما تكون سياساتها هي المسبب لتلك الظروف أو الصانع لها وليس الآخر الذي يلقي عليه العنصريون بلائمتهم.
وعادة ما تكون العلاقة طردية بين خطوات التطور والنهوض الاقتصادي خطوات التطور والارتقاء الثقافي والمعرفي للمجتمعات، وتسيران معا لتحقيق النهضة المأمولة، إذ لا قيمة لأي نهوض اقتصادي وخدمي وعمراني مالم يصاحبه ارتقاء في المستويات الثقافية والمعرفية والعلمية والتعليمية، مصحوبا بانفتاح أكثر على مجتمعات وتجارب وثقافات أخرى تثري معارف وخبرات تلك الدول، فالعمران المديني أو الحضري يبقى مجرد حجر جامد مالم تبعث فيه روح المعرفة والارتقاء الحضاري في لغة وسلوك سكانه في تعاملهم البيني ومع الآخر المختلف.
الصادم تماما.. أن تركيا نهضت وتطورت ونجحت على مختلف المستويات الخدمية والعمرانية والحضرية وبخطوات كبيرة ومتسارعة، لكن مع الأسف لم يصاحب ذلك ما يجب أن يوازيه في المسار تطورا وانفتاحا على المستويين الثقافي والحضاري - مع ملاحظة التفاوت بهذا الشأن بين المناطق الجغرافية داخل كيان الدولة نفسها فالشمال والغرب مختلفان كثيرا عن الشرق والجنوب - ولكن بقيت ثمة فجوة واسعة بين المسارين المتوازيين، فالأول يسير بسرعة الصاروخ بينما الثاني ما يزال يمشي الهوينى بسرعة السلحفاة!.
ومرد ذلك باعتقادي لعدة عوامل منها الخوف - الذي لم يعد مبررا - على الهوية الوطنية، فهذا الخوف يجعل المجتمع أسيرا ضمن قوقعة يخشى الخروج منها لأنه يظن أن هويته الوطنية ستتآكل وتتأثر بمخالطته لشعوب أخرى أو بالانفتاح وتعلم لغات أخرى والاطلاع على ثقافات شعوب ومجتمعات مغايرة، وهذا الخوف ربما كان له ما يبرره في فترات سابقة حيث تعرضت أجزاء كبيرة من الدولة لاحتلالات جيوش أوروبية عدة تمكنت بتضحيات شعبها وحسن استثمار قيادتها للظروف الدولية آنذاك لانتزاع أراضيها من المحتلين وفرض سيادتها عليها مجددا، وبالتالي شكّل النزوع القومي وضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية للدولة ووحدة شعوبها وتجذير الهوية اللغوية الخاصة به هاجسا عطل طويلا مسار الترقي أكثر، وهذه كلها أسباب يمكن تفهمها وتفهم ضرورتها خلال العقود السابقة أما وقد استقرت الخرائط وتجذرت الهوية الوطنية ودخلت الأمم مرحلة العولمة لم يعد بتقديري ثمة ما يبرر الاستمرار بالانغلاق وعدم الاطلاع والانفتاح على الآخر، خصوصا أن ما حققته تركيا من تطور وارتقاء مديني واقتصادي وعمراني يعزز هويتها ويمنحها حصانة لتلك الهوية ولتاريخها وتجربتها ولم يعد مخيفا ولا مقبولا أو مناسبا ألا تطور مناهجها ولا تعاد صياغتها بطريقة تعيد بناء جسور التواصل مع الشعوب واللغات والثقافات المغايرة.
الهوية القلقة من لغة الآخر.. من مخالطته أو مجاورته.. هي هوية مضطربة وغير متصالحة مع نفسها وغير قادرة على أن تكون مؤثرة وعاجزة عن وضع بصمتها المميزة لها ضمن خريطة الهويات الكثيرة في المساحة الكونية.
هذا النقد لا ينتقص أبدا من قيمة ومكانة الشعب التركي الذي كافح طويلا ليصل إلى العتبات الأساسية لمسار التطور، ولا ينفي أبدا الحاجة لإجراء مراجعات مجتمعية في العمق يمكن أن تجد إجابات حاسمة لأسئلة من قبيل: هل نحن حقا شعب متفوق على الشعوب الأخرى؟ وهل له خصائص مختلفة تجعله كذلك؟ أم أن المسألة لا تعدو عن كونها عرضا مرضيا له أسبابه المتصلة بما يتم تلقينه للأجيال في مناهجها التعليمية، أو من رفض تعلم اللغات الأخرى التي تفرضها ضرورات الانخراط في مسار الحداثة والتطوير دون أن يكرس ذلك اعتقادا خاطئا بانتهاك قيمة اللغة الوطنية..
لقد أظهرت طريقة التعاطي مع ملف اللاجئين السوريين وخاصة في السنوات الأربعة الأخيرة أنه ما من مجتمع خال أو متعافٍ من داء العنصرية كما يخيل لنا، والكثير من التصريحات والحوادث تثبت ذلك لكن هذا الداء يمكن محاصرته وعلاج أسبابه وتطهير الجسد من إفرازاته وإنتاناته إذا ما حصل التشخيص الصحيح للأسباب وتحديد سبل العلاج، وقبل ذلك وبعده إذا ما توفرت الرغبة في التعافي، فجسد المجتمع التركي فتي وقوي البنية ولديه مناعة كبيرة وبقليل من المضادات الحيوية الفكرية والثقافية يمكن له بسهولة أن يسترد عافيته.
المصدر: تلفزيون سوريا