غازي دحمان
بخطى متسارعة، يسير العالم نحو التغيير، وربما قلائل يعترفون بذلك، لكن مؤشرات التغيير تكشف عن نفسها يوماً بعد آخر، فالعالم، بعد حرب أوكرانيا، لن يكون كما قبلها، ومنطقة الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي مع إيران لن تكون كما كانت قبله، ثمّة خرائط، بشعوبها وثقافاتها، ستتغير باتجاه التفكّك أو صوب الاندماج، القسري أو الطوعي.
إنه نظامٌ دوليٌّ جديد، بهيكليةٍ ومعمار مختلفين، وفي هذه الحالات، تبدأ التغيرات من الخواصر الرخوة، والتي تسمّى، في الاستراتيجيات، مناطق النفوذ المهمة، تلك المناطق تشكّل مختبرات لمدى تقبّل الفاعلين الدوليين الديناميكيات الجديدة ودرجة تأثيراتها في تفاعلاتهم، وغالباً ما تتحوّل هذه المناطق إلى شواهد على هذا التغيير وحدود له. وبالنظر إلى أوضاعها وظروفها الجيوسياسية، تبدو سورية أكثر الدول تأثراً بهذه المتغيرات، التي تحصل في لحظة فراغ للقوّة في المجال السوري، فراغ يمكن وصفه بالشامل: خريطة سياسية ممزّقة بين خمسة جيوش احتلال، نظام سياسي يجرى تحريكه من الخارج ويقع تحت تأثير قوى وصائية، معارضة تديرها أطراف خارجية وتعمل في الغالب لصالح أجندات هذه الأطراف، نسيج مجتمعي ممزق إلى أبعد الحدود، واقتصاد منهار ومن دون أي أفق لإنعاشه وإعادته إلى الحياة.
في الفضاء الشرق أوسطي، تبدو سورية مثل ريشةٍ في عواصف رهيبة، بلد لا وزن له، يسعى اللاعبون الآخرون إلى القبض عليه، أو على أجزاء منه، في لعبة استقطابٍ مكشوفة، الهدف منها إضعاف أوراق الفريق المنافس أو الخصم في المساومات الإقليمية والدولية الحاصلة على هامش المتغيرات الجيوسياسية الأوسع.
يتخذ التنافس على سورية شكل صراع على تفاصيل جغرافية هنا وهناك، لكنها تشكل في المشهد العام أجزاء حيوية لمقاطع جيوسياسية، حيث يبدو من المذهل أن تصرف إيران طاقات كبيرة في سورية للسيطرة على طرقات عابرة لصحارى تدمر ودير الزور، وتدخل في منافسات حادّة مع روسيا، شريكتها في محاربة المشروع الجيوسياسي الأميركي، على موقع عسكري هنا وقاعدة هناك، فيما صرفت روسيا وتركيا طاقاتٍ كبيرة من أجل السيطرة، أو استعادتها أو تثبيتها على الطريق الدولي M5، واضطرّت إسرائيل لشن ألف غارة جوية للحفاظ على الشريط الحدودي القريب من الجولان خالياً من الوجود الإيراني.
في المشهد العام أيضاً، تخرج سورية من إطار المنظومة العربية، ما الهم في ذلك ما دام النظام الإقليمي العربي نفسه يتفكّك؟ حيث تمكن ملاحظة ظهور اتجاهات جديدة لغالبية الدول العربية خارج النظام الإقليمي العربي الذي لم يعد يهتم به أحد، فدول الخليج الفاعلة، كالسعودية والإمارات، تتجه صوب بناء مجال جيوسياسي خاص بها في أفريقيا وتعمل على تعميق علاقاتها مع دول المحيط الهندي. وتركز مصر جهودها على حوض النيل الذي سيشكّل هاجساً لها في العقود المقبلة، فيما تذهب دول المغرب باتجاه الانخراط أكثر في علاقاتٍ تفاعليةً مع دول الاتحاد الأوروبي، نظراً إلى اتساع المصالح بين الطرفين. أما ما نلاحظه من محاولات تقارب بعض الأنظمة العربية مع سورية، فهو لا يخرج عن كونه سياساتٍ مناكفةً بين الفاعلين ومحاولات تثقيل أوراق المساومة في مواجهة بعضها بعضا.
على الأرجح، تسير وحدات النظام العربي بهذه التوجهات تحوطاً من المتغيرات الجيوسياسية التي رأت نذرها تتشكّل منذ مدة في سماء الشرق الأوسط، حيث لم تعد أميركا راغبةً في الحفاظ على الشكل القديم لهذه المنطقة، طالما أن بقاءه مشروط باستمرار تدفيع الخزائن الأميركية طاقات كبيرة للحفاظ عليه، فضلاً عن تقديرات أميركية أظهرتها طريقة تفاعل الإدارات الأميركية مع ثورات الربيع العربي، مفادها أن هذا الشكل القائم لم يعد قادراً على مواكبة المتغيرات العاصفة التي ينخرط العالم في أتونها في المرحلة الراهنة، فالحياة للأقوى والأقدر.
تبدو سورية ساحة مثالية لممارسة الألعاب الجيوسياسية بالنسبة لجميع اللاعبين الإقليميين والدوليين، بالنظر أولا لسقوط المحرّمات المتعلقة بقواعد القوانين الإنسانية والدولية فيها بعد الفوضى التي أحدثتها الحرب. ولأنها، ثانياً، ساحة مفتوحة على كل المشاريع الجيوسياسية، وليست حكراً على أحد، رغم اختلاف نسب السيطرة وأحجام الفاعلين وأوزانهم، إلا أنها صالحة لأن تكون جزءاً من المشروع الأوراسي الروسي، وأحد ممرّات "الحزام والطريق" الصيني، وحلقة في مشروع إيران التوسعي في المشرق العربي، وبوابة تركيا للعالم العربي، وساحة أميركية لمضايقة جميع هؤلاء اللاعبين وتحجيم أدوارهم.
ما هي السيناريوهات المحتملة لشكل سورية الجيوسياسي في المرحلة المقبلة؟ السيناريو الأكثر رجحاناً: استمرار بقائها منصّات للصراع بين جملة الفاعلين المتنافسين، وقد يؤدّي احتدام الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا إلى نقل جزء من هذا الصراع في مرحلة لاحقة إلى سورية، وتبعاً لذلك، يصبح تقسيم سورية، أو وضع حدودٍ نهائية لمجالات نفوذ الفاعلين في سورية، أمراً واقعياً وضرورياً وجزءاً من قواعد الاشتباك، حيث سيسقط من يد روسيا ذريعتها الضعيفة أصلاً، والتي تقوم على تقسيم القوى المنخرطة في اللعبة السورية بين أطراف خارجية شرعية مدعوّة من نظام الحكم وأطراف غير شرعية. في هذه الحالة، ستكون سورية أمام صياغة جيوسياسية جديدة مناقضة للصيغة التي كانتها عقودا سابقة من زمن تشكّل الدولة الوطنية فيها.
السيناريو الأقل رجحاناً: تشكّل مقاومة وطنية، على نمط المقاومة الأوكرانية، في مواجهة الجيوش الخمسة التي تحتل سورية، ومعها قوات نظام الأسد والمجاميع الإسلامية، وهو أمر غير محتمل في الأفق المنظور لأسبابٍ عديدةٍ، أهمها تمزّق الروح الوطنية وعدم التوافق على سردية وطنية موحدة، فضلاً عن افتقاد الشخصية الوطنية الجامعة.
لا حلول لسورية في الأفق، سورية نفسها ستكون حلاً لصراعات جيوسياسية إقليمية ودولية، فالمطلوب من الجغرافية السورية أن تكون في المرحلة المقبلة وسائد أمان لامتصاص حدّة الصراعات الجيوسياسية العالمية.
المصدر: العربي الجديد