يحيى العريضي
حفظ المعنيّون بالشأن السوري "تحويطات - إحاطات" المبعوث الدولي "بيدرسن" عن ظهر قلب، ولم يعد وصْفُ أسطوانته بالمشروخة ذا جدوى أو معنى؛ إلا أنه أراد لكلمته في اجتماع "بروكسل" أن تحمل مسحةً من التفاؤل المرسوم، تولّده بدعة "الخطوة بخطوة"، التي وعدنا بها؛ فكان النَفَسُ التفاؤلي تلميحاً وبتحفظ، للإيحاء بالموضوعية، عند ذكره لـ "قانون العفو" العام عن "إرهابيين" أصدره "النظام"، ومسألة "التعافي المبكر"، والبشرى بجولة جديدة للدستورية.
فبعد سرديته المألوفة عن الوضع السوري المأساوي، وتفصيلاته في الكارثة الإنسانية حول دمار نصف البلد، ونزوح نصفها الآخر، ومعاناة أهالي المعتقلين والمختطفين والمفقودين، والأوضاع الاقتصادية الكارثية، والتجزئة، والإرهاب الذي تجاوز كل الأعراف؛ وبعد المزيد من التشويق suspense” “ المأساوي - ودون الإشارة إلى مَن فعل، أو تسبب بكل هذا، معتمداً على صيغة "المبني للمجهول" في تغييب ذكر الفاعل؛ يدخل بصيغة "المبني للمعلوم"، ويحدد "الفاعل" فقط عند ذكر "العفو العام"، ومَن قام به، و"القوانين والمراسيم والإصلاحات" ومَن يقوم بها؛ ويلمّح أن كل ذلك يأتي بإطار منهجية "خطوة بخطوة"، و كم هو مهم أن يحدث "التعافي المبكر".
مضمون كلام السيد "بيدرسن" أن "نظام بشار الأسد" تقدّم بخطوة، وهي "عفو عام" و"إطلاق سراح معتقلين". ولا ندري إذا كان السيد بيدرسن يعلم أو يتجاهل أن "خطوة" منظومة الاستبداد هذه هي مجرد إخراج أكوام من العظام من مقابر الأحياء ضمن المخطط له لإعادة تأهيله؛ والذي تسهم به بدعة "خطوة بخطوة" لصاحبها السيد "بيدرسن"؛ وفي الوقت ذاته تأتي هكذا "خطوة" لتغطية مجزرة "حفرة التضامن" التي كشفتها "الغارديان"؛ والتي لم يأتِ السيد "بيدرسن" على ذكرها قط. فهو لم يسأل، ولم يعرف عدد الذين أطلق نظام الأسد سراحهم، ولا عن حالهم النفسي والعقلي؛ ولا عن مئات الآلاف من الأهالي، الذين انتظروا في الطرقات وتحت الجسور، وعادوا مكسوري القلب والخاطر. ربما لا يريد السيد المبعوث أن يغلّث خاطر "النظام" بأي كلمة تدين احتقاره وإذلاله لشعب سوريا؛ وذلك حرصاً على تجاوب النظام في حضور جولته الثامنة للدستورية.
وبناءً عليه، يزف لنا بُشرى انعقاد جولته الثامنة لاجتماعات الدستورية، وكأنها هي التي ستوفّر "البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة"، التي يتحدث عنها، ويراها ضرورية لنجاح عمله؛ وهو على علم أكثر من أي مخلوق أن مَن يحول دون هذه /البيئة الآمنة/ هو "النظام"؛ وأنه حتى لو أنجز أربعة بنود دستورية في الشهر، ستحتاج مهمته إلى أربع سنوات للانتهاء. ولكن لسانه خانه، وكشَفَ الحقيقة، عندما قال في كلمته، بأنه حتى ولو انتهت المهمة، لا بد من استعدادية للتطبيق. ولكنه لا يحدد من يعرقل إنجاز أي شيء، أو سيكون مسؤولاً عن عرقلة تطبيقه.
يتحفنا أيضاً بتشديده على "إجراءات" "بناء الثقة"، وهو يعلم يقيناً أن "نظاماً" قتل شعبه لا يُمكن أن يكون موثوقاً؛ فالنظام الذي لم يلتزم بمجرد /محددات إجرائية/ تم الاتفاق والتوقيع عليها في العملية الدستورية، لا يمكن أن يكون موضع ثقة. والسيد المبعوث لم يذكر الفاعل بالاسم يوماً؛ وعندما يتحدث عن فشل العملية، يقَدِّم ذلك مواربة دون ذكر المتسبب أو مَن وراء العرقلة والفشل. فكيف تثق بعصابة، عندما تصدر "عفواً" تريد منه مسح آلاف المجازر من ذهن السوريين، وطي صفحة نصف مليون سوري دفنتهم بعد تعذيبهم؟! ألا يدفع المبعوث كثيرين للاعتقاد أن حرصه الأساس ليس على السوريين، كما يدعي، بل على علاقة طيبة مع الروس والنظام، أو طمعاً براتب خيالي يتقاضاه على حساب حق السوريين ودمهم؟!
لا يستبعد السوريون أن السيد "بيدرسن"، وفي إحاطته القادمة لمجلس الأمن، قبل انعقاد جولته الثامنة، سيكرر الأسطوانة ذاتها. وسيلفت الانتباه لـ "العفو العام" عن المعتقلين؛ ويعتبره خطوةَ "بناء ثقة" للترويج لمنهجيته في بدعة "خطوة بخطوة"، وسيحث مجلس الأمن والأمم المتحدة على "التعافي المبكر" وإزاحة العقوبات عن "نظام الأسد" تحت يافطة الضرر الذي تُلحقه العقوبات بالشعب السوري. وستشعر موسكو، التي تَفْتِكُ بأوكرانيا، أن لها مَن يريحها تجاه الملف السوري؛ وسيشعر نظام الأسد أن تفلّتَه من جرائم ارتكبها بحق السوريين أضحى وشيكا.
وكي يزيد منسوب الاهتمام بمهمته، ينبّه السيد المبعوث من الاعتقاد بأن ما سمّاه "غياب سوريا عن العناوين الرئيسية للأخبار" يجعل "اهتمام العالم بالصراع في سوريا أقل"؛ ولكن فاته أن يقول كم هو ذاته متسبب بانخفاض منسوب الاهتمام بالقضية السورية عندما يحوّلها إلى اجتماعات للجنة دستورية تحتاج أعواماً لإنجاز مهمتها، وعندما يحيد عن جوهر القضية التي تحميها قرارات دولية بين يديه وعليه تطبيقها؛ ولكنه يذكرها بشكل عابر؛ وعندما يجعل السوريين يعتقدون بأن هاجسه إرضاء الروس والنظام، وعندما يكثّف صوت السوريين للحصول على حقهم بفرد أو مجموعة بلجنة دستورية تسير حسب اقتراحات وإرادة المبعوث ومشغليه.
سيد بيدرسن؛ وضوح حق السوريين لك وللأمم المتحدة التي انتدبتك، وعلمك المعمق بمأساتهم، التي لا تنفك في الحديث عنها؛ يحتّم عليك إنصافهم وحمل أمانتهم بأخلاق؛ ومع هذا يقبلون منك حتى أن تكون محايداً، ولا مانع لديهم أن تكون دبلوماسياً، كي تسير مهمتك وتلقى نجاحاً؛ وحتى لو لم تسمِّ الأمور بمسمياتها أو تحدد الفاعل؛ إلا أنهم لا يتوقعون منك أن تكون أداةً بيد روسيا وبيد النظام، وأن تعتبر ما فعله النظام بإطلاق أكوام من العظام وأناس بحالة ضياع "خطوة"؛ ترى فيها إنجازاً. فهذا تحيُّز وتشويه للحقيقة؛ ويخدم الظالم، ويعكس صفات لا أريد ذكرها. ما يحدث لا يتوقعه أو يقبله السوريون أو أي مخلوق لا يزال يحمل بعض الأخلاق. يدرك السوريون سيد بيدرسن أن حقهم ليس عليك، ولا على أمم متحدة اعتمدت الرخاوة في مقاربة القضية السورية العظيمة؛ بل على أي فرد أو مجموعة انتدبت نفسها، وانتدبتها مصالح دول بعينها لتلعب دور شاهد الزور في اجتماعات إزهاق الحق السوري، وإنهاء قضية هي الأشرف بتاريخ البشرية. ونعتقد أنه آن الأوان ليقول الشعب السوري كلمته تجاه هؤلاء.
المصدر: تلفزيون سوريا