العميد الركن أحمد رحال
الأيام الأخيرة من الحرب الروسية التي تشن على الشعب الأوكراني حملت في طياتها أهدافاً مختلفة لكلا طرفي الحرب هناك, فالجيش الروسي ومن خلفه الرئيس بوتين المحبط بهزالة جيشه وتفكك وحداته وحراجة موقفه أمام الشعب الروسي, يريد تحقيق إنجاز نوعي يستر خيباته وماء وجهه ليقدمه للشعب الروسي في احتفالات "عيد النصر" الذي يقام سنوياً في التاسع من أيار من كل عام, كذكرى للانتصار على النازية الهتلرية، وأمام هذا الهدف ولضيق الوقت المتاح, يصعد الجيش الروسي بأوامر مباشرة من الكرملين من عملياته العسكرية في كل المساحات التي يستطيع الوصول إليها في جبهات أوكرانيا.
ففي الجبهة الشرقية وبعد حصار طويل لمدينة خاركوف الأوكرانية، تتقدم طلائع كتائب بوتين لتصل لأقل من 40كم عن قلب المدينة, في محاولة للسيطرة على مدينة "لازوفا" التي تعتبر بوابة مدينة "خاركوف" الجنوبية, ويترافق الهجوم البري الروسي مع رشقات من صواريخ "توتشكا أو" ذات الأمدية المتوسطة لضرب أحياء المدينة, تترافق تلك العمليات العسكرية البرية مع تصعيد جوي عبر اشتراك القاذفات الإستراتيجية الروسية من نوع توبوليف 160, ورشقات من صواريخ "إسكندر إم" من قواعد إطلاقها في شبه جزيرة القرم ومن داخل الأراضي الروسية، وصواريخ "كاليبر" شاركت بها حاملات الصواريخ البحرية في أسطول البحر الأسود المنتشر قبالة شواطئ "سيفاستوبل" في شبه جزيرة القرم لتطال تلك الرشقات الصاروخية مدن "دينيبرو، زابورجيا، شيركساي"، واستهداف مدينة "دنيبرو" وإخراجها من المعركة يعني السيطرة الميدانية الروسية على وسط البلاد الأوكرانية، وبالتالي السيطرة على أهم عقدة المواصلات تربط الجبهات الأوكرانية وتؤمن لها سيالة الإمدادات العسكرية على كل جبهات ومحاور القتال.
مقبرة جديدة لجيش بوتين!
حملة التصعيد الروسية تلك ترافقت مع قصف صاروخي طال أحياء العاصمة "كييف" في الشمال وبعض أحياء مدينة "أوديسا" في الجنوب، بتصعيد عسكري كبير لم تسلم منه جبهات "ميكولاييف" في الجنوب الغربي على حدود مقاطعة "خيرسون" والتي تعتبر خطوط دفاعها هي الخطوط الأخيرة لتأمين "أوديسا"، الميناء الأهم والأوحد للأوكرانيين على البحر الأسود.
لكن أهداف "بوتين" بربط جبهات الجنوب، من خاركوف إلى إيزيوم ودينيبرو ثم خيرسون وميكولاييف ولاحقاً أوديسا, تلك المناطق التي تقع على جبهة يصل طولها لحوالي 550كم، لن يكون حسم جبهاتها بالأمر المتاح، وبسهولة كما كان يحلم بوتين عندما قرر غزو أوكرانيا وإسقاط العاصمة كييف والقضاء على قيادتها السياسية والعسكرية في أقل من 96 ساعة، فجبهات إقليم الدونباس بمقاطعتيه لوغانسك ودونيتسك لم تُحسم بعد، وحتى مدينة "ماريوبول" المحاصرة منذ 70 يوماً ما زال أفراد كتيبة آزوف وبعض القوات الخاصة من الجيش الأوكراني يقاتلون ويسيطرون على مجمع "أزوف ستال" الذي يتموضع على مساحة 11كم2 في شرقي المدينة، ومجمع "آزوف ستال" تم تحضيره أوكرانياً للقتال عبر أنفاق تحته متشعبة ومتداخلة، وبأكثر من مستوى، ويصل طولها لأكثر من 24كم، ولتأمينه من الحصار تم تجهيزه دفاعياً بكل معدات الصمود من أغذية وشراب وذخائر، ما يعني أن التحرشات التي تقوم بها القوات الروسية بمحاولة للسيطرة على هذا المجمع، وإنهاء الوجود الاوكراني على شواطئ بحر آزوف مهيأة للدخول بحرب استنزاف طويلة الأمد, ومكلفة عسكرياً، وقد تؤدي لخسائر بشرية غير متوقعة في مفاصل جيش بوتين الذي يهاجمها!
إن القتال ما زال يدور في مناطق محصورة وضيقة، وبمسرح عمليات يتقنه المدافع، ويحتاج القتال فيه لقتال من التماس المباشر, قد لا يتقنه أفراد كتائب الجيش الروسي, وقد يشكل مجمع آزوف ستال مقبرة جديدة غير محسوبة لجيش بوتين, تعيد له ذكريات نكبات جيشه الأخيرة على جبهات إربين وبوتشا وغيستوميل في محيط العاصمة كييف.
تحديات القيادة الأوكرانية
بالمقابل فالقيادة الأوكرانية تعتبر أن معركتها الأساسية تكمن في تأمين وصول الإمدادات الغربية والأطقم القتالية التي دربها الناتو والولايات المتحدة الأمريكية خارج أوكرانيا على مدافع الهاوتزر إم 777، وعلى حاملات الجند إم 113 إضافة لتأمين وصول المضادات الجوية ومضادات الدروع من نوع "ستينغر, جافلين" مع كل الذخائر إلى جبهات القتال؛ فجبهات القتال باتت تحتاج لتعزيزات بالأسلحة والجهد البشري، إضافة لتأمين استمرار سيالة معطيات الاستطلاع التي تؤمن استخدام السلاح وتعطي الرؤية الميدانية لمجريات الحرب لقادة الجيش الأوكراني، مع عدم إهمال وسائطهم النارية لقصف الخطوط الخلفية لأعدائهم وخاصة في إقليم الدونباس كإحدى أهم الجبهات.
لقد شكل مجمع الوقود الأضخم لوجستياً للانفصاليين ولجيش بوتين في مدينة "ماكفيكا" هدفاً لقصف صاروخي أوكراني أدى لتدمير المجمع النفطي, وانتشار النيران على جبهة تزيد عن 1كم, أربكت تحركات الجبهات في إقليم الدونباس.
بوتين التواق لحسم جبهة الجنوب والحصول على إنجاز عسكري نوعي يقدمه للشعب الروسي بعد ما يزيد عن شهرين من الإخفاقات العسكرية على الجبهات الأوكرانية, وتلك الإخفاقات المتتالية دفعت ببوتين لفتح كل فوهات نيرانه العسكرية والسياسية, والتي وصلت شظاياها لتل أبيب عندما نسب وزير الخارجية الروسي لافروف الأصول اليهودية لهتلر, واتهم إسرائيل أيضاً بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب الأوكرانيين ضد الجيش الروسي، وكذلك خرج وزير الدفاع "شويغو" ليهدد من جديد بأن الجيش الروسي سيستهدف كل قوافل الإمداد الغربية بمجرد دخولها الأراضي الأوكرانية, وأن زيادة الإمدادات العسكرية الغربية للجيش الأوكراني ستتسبب بإطالة أمد العملية العسكرية الخاصة "كما تسميها موسكو", وقد تؤدي لحرب عالمية ثالثة.
لعنة تخبط بشار تصيب بوتين!
بوتين اليوم هو كبشار الأسد بالأمس, يتخبط يمنة ويسرى. يستنجد بالشيشان والبيلاروسيين، ثم يطلب مرتزقة من نظام الأسد للقتال في أوكرانيا، ثم يسحب قادة وضباط وأطقم عمليات من قاعدة حميميم بعد أن أعاد معظم طائراتها إلى روسيا, ويعيد أيضاً معظم مرتزقة شركة فاغنر من الجبهات السورية، وهذا ما فعله بشار الأسد عندما استنجد بداية الثورة بمقاتلي حزب الله, ثم بقوات الحرس الثوري الإيراني, ثم بمرتزقة إيران من فاطميين وزينبيين وميليشيات عراقية, لكن كل تلك التعزيزات لم تقدم النصر للأسد, كما إنها لن تقدم النصر لبوتين.
اليوم، يدرك بوتين تماماً أنه عاجز عن تقديم إنجازات نوعية للشعب الروسي في احتفالات عيد النصر في الساحة الحمراء في موسكو, فالإنجاز البوتيني المخضب بدماء الروس مرفوض داخل روسيا, والإنجاز البوتيني الذي دفعت تكلفته أضعاف أضعاف قيمته الحقيقية ليس نصراً, والإنجاز الذي حمل معه القتلى ودماء الجرحى لعشرات آلاف البيوت الروسية ليس إنجازاً.
بوتين اليوم يجلس على جماجم جيشه وجماجم أطفال ونساء الأوكرانيين, كما يجلس بشار الأسد على جماجم طائفته وجماجم السوريين وعذاباتهم في النزوح والتهجير.
المصدر: أورينت نت