علي الجاسم
في بحث استقصائي موسع، كشف الباحثان أنصار شحود وأور أونغور الخيوط عن سلسلة من المجازر المروعة التي أشرف عليها وقام بتنفيذها عناصر من فرع الأمن العسكري – فرع المنطقة (227) في حي التضامن في دمشق حيث تظهر المواد المصورة دليلاً لا لبس فيه يدين الجناة والمؤسسات التي ينتمون إليها مستوى العنف الممنهج الذي تتبناه هذه الأجهزة وزبانيتها من الشبيحة.
وهنا يأتي السؤال كيف ولماذا تلجأ الحكومات والأنظمة لمثل هذه الأنواع من الأعمال؟ فالعنف الذي ترتكبه منظمات القمع السرية [المخابرات والشبيحة] هو عنف مركب يقوم في أساسه على خمس ركائز أساسية:
وإذا ما تناولنا هذه الركائز الأساسية بالتفصيل فإن رؤساء المجموعات على الأرض يطلقون العنان لمرؤوسيهم لارتكاب المجازر والتي تكثفها عبارة "’بكل الوسائل المتاحة" في كتبهم ومراسلاتهم السرية. بذلك يتم منح المنفذين ضوءاً أخضر لارتكاب الفظائع حيث يتم إدراج الضحايا في خانات "العمليات التطهيرية العسكرية" وفي أحسن الأحوال "ضحايا عرضيين".
وأما الركيزة الثانية وتعتبر الأكثر رمزية من بين الركائز الأخرى والتي تعبر عن مدى إصرار الجاني على ارتكاب فعل العنف والتنصل من إنسانيته والشعور بالآخر وحقه في العيش. وإذا ما تناولنا هذا الفعل وقارناه بعمل آخر من الأعمال الحربية مثل استخدام سلاح الجو والبراميل المتفجرة والصواريخ بعيدة المدى، فإن المنفذ يحافظ على مسافة تفصل بينه وبين ضحيته بحيث يمكن التصالح مع الفعل لكونه ضرورة عسكرية وميدانية.
في حالة المخابرات والتنظيمات شبه العسكرية فإن الجاني يعد ويرتب مسرح الجريمة مسبقاً ويعرف تفاصيل بالحد الأدنى عن ضحاياه فيتفنن ويستلذ في فعل القتل والإبادة الذي يرتكبه على حيوانات لا تستحق العيش في منظوره
والجدير بالذكر أنه وفي بعض الأحيان وفي حالات الدمار الواسع فالضحية تأخذ فرصة أخرى بالعيش والنجاة في حال تعرضت لإصابة متوسطة أو طفيفة. أما في حالة المخابرات والتنظيمات شبه العسكرية فإن الجاني يعد ويرتب مسرح الجريمة مسبقاً ويعرف تفاصيل بالحد الأدنى عن ضحاياه فيتفنن ويستلذ في فعل القتل والإبادة الذي يرتكبه على حيوانات لا تستحق العيش في منظوره، وبعدها يقوم بطمس خيوط ومسرح الجريمة.
وهذا يقودنا للركيزة الثالثة ألا وهي السرية حول فعل الإجرام أو المجزرة. فمنذ اللحظة الأولى من احتكاك الجاني بالضحية تنقطع كل أشكال التواصل مع العالم الخارجي بما في ذلك أسرته وأقرب الناس إليه.
ينفرد هنا الجناة بحصرية التعاطي مع ضحاياهم ومصائرهم والذي ينتهي في الغالب إلى الحتف كما يكشف تبرير أحد الجناة الذي يعتبر عملية الاعتقال والحراسة وإطعام الضحايا بأنها عبء على كاهل الدولة ومؤسساتها "فيصبح من السهل التخلص من هؤلاء الأشخاص (الضحايا) بالميدان في أثناء القيام بعملية عسكرية أو مهمة" بدلاً من إيداعهم.
وهنا يعمد المنفذون إلى إخفاء مسرح الجريمة بأفعال تتدرج بين حرق الجثث أو طمرها في آبار مهجورة أو رميها في الأنهار الجارية.
أما الركيزة الرابعة فهي التعميم في الاستهداف. ويحضرني هنا تعليق أحد رجالات نظام الأسد وهو حيدرة ابن اللواء بهجت سليمان، أحد مستشاري الأسد وسفيره السابق إلى الأردن، معلقاً على الانتقادات التي كانت تطول النظام لاستخدامه البراميل المتفجرة في حلب عام 2014. حيث قال: "البراميل براميلنا والأرض أرضنا وين ما بنشلفهم بنشلفهم، ما حدا خصه".
هذه العبارة فيها تكثيف لمنهجية النظام في عقاب أحياء ومدن كاملة خارجة عن سيطرته والتي يطلق عليها بمخطاباته الرسمية "حاضنة الإرهاب الشعبية" لتبرير العقاب الجماعي لقاطني منطقة ما مستهدفة.
والحال نفسه يسري على المخابرات والشبيحة من حيث التعميم في استهداف ضحاياهم، بحيث يكفيهم فقط إلقاء القبض على أحدهم بمجرد وجودهم في مسرح عملياتهم. وبذلك فمن الممكن تبرير عمليات القتل على أنها ضرورات أمنية أو حتى تواطؤ مثل هؤلاء الضحايا مع أشخاص معادين للنظام آخذين بعين الاعتبار بأن لديهم ضوءاً أخضر وتفويضاً من رؤسائهم في تنفيذ أعمال العنف لاستعادة النظام العام لمنطقة ما.
ومن هنا فإن الجناة يلجؤون إلى الركيزة الأخيرة ألا وهي آلية الإنكار والتنصل من المسؤولية حيث يصبح من الصعب تتبع خيوط الأوامر في سياقات المجازر المرتكبة من قبل جماعة سرية تكون فيها علاقة العناصر ببعضها البعض شخصية وليست مهنية أو مؤسساتية.
فمن هو ذلك الشخص الذي سيشي بأخيه أو أعز أصدقائه؟
فالبديل هنا هو إنكار ارتكاب المجزرة بإلقاء اللوم على الآخر بزعمه أنه من مصلحة ذلك الآخر تشويه سمعة [الدولة] كونها الجهة الشرعية المخولة باستخدام العنف
البديل هنا هو إنكار ارتكاب المجزرة بإلقاء اللوم على الآخر بزعمه أنه من مصلحة ذلك الآخر تشويه سمعة [الدولة] كونها الجهة الشرعية المخولة باستخدام العنف.
لقد رأينا ذلك في حالات كان واضحاً فيها تورط أجهزة النظام، مثل الهجوم الكيماوي على الغوطة في صيف 2013 ومن قبلها مجزرة نهر قويق في حلب من خلال إلقاء جثث ضحايا تم تصفيتهم على عجل في نهر يمر من مناطق سيطرة المعارضة.
في النهاية، هناك توجه متزايد في الآونة الأخيرة لتناول أجهزة المخابرات وآليات عملها على الرغم من كونها صندوقا أسود محاط بالسرية التامة والتكتم عن حيثيات أنشطتها، بما في ذلك سياقات الدول التي تعتبر نفسها تتمتع بحكم ديمقراطي يخضع للمساءلة أمام العامة. وفي الخط نفسه تتركز حالياً نزعة باتجاه دراسة الجناة بتموضعهم في مؤسساتهم الأمنية والتنظيمات النشطة تحت ظلها من أجل فهم التركيبة من القاعدة إلى الهرم، إذا كانت دراستها هيكلياً غير متاحة أو قابلة للتنفيذ.
يتطلب هذا جهداً كبيراً من حيث الأدوات والمنهجية، ناهيك عن الصبر والتأني من أجل إكمال صورة الأحجية التي قد تصل قطعها التي تركب صورتها الألف قطعة.
المصدر: تلفزيون سوريا