منير الربيع
ما أصبح واضحاً، أن سياق الحرب الروسية على أوكرانيا لن يقف عند حدود البلدين. يمكن وصف ما يجري بأنه إعادة لرسم معالم النظام العالمي الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى إرسائه. هذا النظام الذي تحكمت به واشنطن على مدار أكثر من عقد من الزمن. منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، مروراً بالحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وحقبة نهاية التاريخ وصولاً إلى حرب مكافحة الإرهاب وانتقالاً إلى مرحلة الانسحاب والانكفاء على قاعدة أميركا أولاً، وعدم الانهماك الأميركي في هذه المرحلة في حماية الأمن العالمي.
من الواضح أن النظام الدولي القائم على حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيؤول إلى التغيير، ولكن حتى الآن لا يمكن تلمّس ملامحه ولا صورته. والمؤكد أكثر أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي تعمل على نسج صورة النظام العالمي الجديد ولا أحد غيرها، بخلاف كل النظريات التي تتحدث عن سقوط الأحادية القطبية والذهاب إلى نظام عالمي برؤوس متعددة منها روسيا ومنها الصين أو دول البريكس أو غيرها من المنظمات الدولية.
بناء عليه لا بد من العودة إلى قراءة تاريخية في مسار الانكفاء الأميركي أو التدخل لدى مرور العالم في مراحل وحقب جديدة شكلت مفترقات رئيسية وتحولات على صعيد التحالفات في العالم لإرساء النظام العالمي وقواعده. ففي الحرب العالمية الأولى لم تكن أميركا مشاركة فيها بشكل مباشر، وهي حتماً كانت مشاركة في الخلفية ولم تتدخل إلا لحسم الحرب في العام 1917، فسقطت بذلك الإمبراطوريات الكبرى مقابل فوز الحلفاء بدعم أميركي واضح. حتى إن بعض المراجعات التاريخية تشير إلى أن أطرافا دولية متعددة ولوبيات مختلفة ساهمت في توفير الدعم للثورة البلشفية بقيادة لينين الذي كان مقيماً في باريس بتلك الفترة وحصل على دعم مالي وسياسي وإعلامي غربي ويهودي. وهذه المراجعات تقود أيضاً إلى توقيت اختيار الولايات المتحدة الدخول في الحرب أي سنة 1917 وهي سنة انتصار الثورة البلشفية. وكان الهدف الأميركي في تلك الفترة إضعاف بريطانيا كإمبراطورية عظمى، مقابل تعزيز النزعات القومية التي تجلت في الفاشية أو النازية وانعكست في الشرق الأوسط أيضاً بين القومية العربية، أو القومية اليهودية والقومية التركية والكردية وغيرها.
حقبة الحرب العالمية الثانية أيضاً كانت مساراً لترسيخ النظام العالمي الجديد، وخلالها استثمرت أميركا في إضعاف أوروبا، كما استثمرت بالاتحاد السوفييتي لضرب هتلر والانتهاء من حقبته، وإرساء مشروع مارشال الذي دفع إلى توقيع الأوروبيين وتحديداً البريطانيين على الانخراط في العالم الأميركي الجديد ذي الشروط المالية والاقتصادية التي أصبحت راسخة لعقود ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا.
ما بعدها عملت الولايات المتحدة الأميركية على إضعاف أوروبا أكثر بالواقع الجيوستراتيجي، من الانقلابات التي حصلت على العروض الموالية لبريطانيا في أفريقيا والشرق الأوسط، إلى مشروع روجرز وبناء علاقات استراتيجية مع دول الخليج التي كانت كلها موالية للبريطانيين.
خدم النظام العالمي مدّته طوال قرن من الزمن، في حين أصبحت دورة التاريخ أو الحتمية التاريخية تحتم على المجتمعات والدول البحث عن صيغ جديدة، وبلا شك أن الولايات المتحدة الأميركية أكثر المنخرطين في هذا النوع من التأثير بالتحولات، في عصر تتجه فيه الشعوب إلى الانكفاء على ذاتها، وكل ما هو مشهود على الساحة العالمية يشير إلى تحول في بنية الأنظمة السياسية وفي البنى الاجتماعية، هنا تفضل الولايات المتحدة الأميركية التراجع إلى الخلف، أو الخروج من مبنى آيل للسقوط وتفضل البحث عن رسم خريطة جديدة إما لترميمه أو لهدمه وإعادة بنائه من جديد.
والمدخل لمثل هذا النظام العالمي الجديد سيكون من خلال الطريق الواسع الذي فتحته الحرب الروسية على أوكرانيا، هي حرب ذات أبعاد جيوستراتيجية تطول أوروبا وروسيا، أولاً أسقطت الحرب الهالة الروسية في أن الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم، فيما عملت العقوبات على ترسيخ مبدأ انعدام قدرة أي طرف على معارضة الترسيخات الأميركية.
لكن الأبعاد الأخرى هي ضرب أوروبا وإضعافها واستهدافها من الداخل ما يحتم على الدول الأوروبية العودة إلى زمن العسكرة، وهذا ستنتج عنه نزعات عنصرية أو قومية أو انطوائية من شأنها أن تأتي بقوى اليمين المتطرف في شتى الدول الأوروبية، فيما أوروبا تجد نفسها أيضاً مهددة في أمنها الغذائي والطاقوي وهو هدف استراتيجي حققته الولايات المتحدة الأميركية من خلال قطع الطريق على أي محاولة أوروبية للذهاب إلى تحالف مع روسيا بخلاف التوجه الأميركي، خاصة أن أكبر المستهدفين ألمانيا وخط نورد ستريم 2.
لكن أبعاد الحرب وآفاقها لن تقتصر على أوروبا، روسيا بحد ذاتها ستكون هدفاً على المدى الطويل، وبالعودة إلى الاستناد التاريخي، فإن الاجتياح الروسي لأفغانستان هو الذي مهد الطريق أمام سقوط الاتحاد السوفييتي، معطوفاً على حرب سياسية وإعلامية وثقافية مركزة تعرض لها السوفييت، تلك الحملة مشابهة إلى حدّ بعيد لحالة النبذ التي تُسخر لروسيا ولفلاديمير بوتين على صعيد العالم. سيكون لهذه الحرب آثار بعيدة المدى وستظهر في السنوات المقبلة، فكما ستنعكس في أوروبا من خلال بروز قوى اليمين المتطرف، أو بروز أصحاب الدعوات إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي ما يعني تصغير الكيانات فإن ذلك سيكون له انعكاسه في روسيا، سواء من خلال بروز أنشطة سياسية وربما عسكرية أو احتجاجية لقوميات أو لمجتمعات ذات توجهات دينية مختلفة إذ قد تخرج جمهوريات متعددة في الاتحاد الروسي للمطالبة بالانفصال والاستقلال.
المصدر: تلفزيون سوريا