عبد الباسط سيدا
من يتابع التحوّلات المتواصلة في مواقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يدرك أن الرجل يحاول، بشتّى السبل، استعادة الزخم الذي أوصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم قبل نحو عشرين عاماً؛ وذلك من خلال العودة مجدّداً إلى سياسة وزير خارجيته الأسبق وشريكه السابق، أحمد داود أوغلو، الذي أصبح رئيس وزرائه لاحقاً، وذلك قبل أن يغدو خصمه في السياسة، فقد تمكّن أوغلو من موقعه مستشارا لأردوغان، ومن ثم وزيرا لخارجية تركيا، أن يؤسّس لتوجه جديد في السياسة التركية الإقليمية من خلال مبدأ "تصفير المشكلات مع الجيران"؛ وهو التوجه الذي أسهم في إطلاق العملية السلمية الداخلية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني عام 2012، والتي قطعت شوطاً لا بأس به على طريق الأمل، ولكنها سرعان ما انتكست صيف 2015 نتيجة عمل المتضرّرين منها من الجانبين. هذا بالإضافة إلى تدخل جهات إقليمية، وربما دولية، كانت مصالحها تتعارض مع تركيا متماسكة داخلياً، ومنفتحة على الجوار الإقليمي، خصوصا من جهة أنها كانت مهيأة، بحكم عضويتها في حلف الناتو، وعلاقاتها الواعدة في ذلك الحين مع الاتحاد الأوروبي، أن تلعب دوراً مؤثراً في الميدان الدولي. فبعد استعادة العلاقات مع مصر، ومدّ الجسور مجدّداً مع الإمارات؛ كان من اللافت الحرص التركي على التواصل مع إسرائيل وعلى أعلى المستويات. واليوم يجري حديث عن زيارة مرتقبة لأردوغان إلى السعودية، وهناك حديثٌ عن اجتماعات أمنية بين تركيا وسلطة بشار الأسد، وذلك كله يجري في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا، والتقارير عن قرب التوصل إلى اتفاق أميركي إيراني بخصوص الملف النووي، وتنامي مستوى العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. هذا إلى جانب الأوضاع الاقتصادية الصعبة نسبياً التي تعاني منها تركيا راهناً، وهي تؤثر سلباً في شعبية حزب العدالة والتنمية ورئيسه.
ولكن ثمار سياسة تصفير المشكلات من دولة إقليمية كبرى في حجم تركيا، تستوجب، في ظل الظروف الإقليمية المعقدة المتداخلة وتفاعلاتها مع الأجواء الدولية، التفاهم مع القوى الإقليمية الأخرى، بناء على مدى استعدادها لأخذ خطواتٍ متكاملة، وذلك للوصول إلى الاستقرار المفقود في المنطقة منذ عقود. ويُشار في هذا السياق إلى إيران التي اتّبعت منذ بدايات ثمانينات القرن المنصرم سياسة استغلال المظلوميات الشيعية في دول المنطقة، بقصد التدخل في شؤونها، والتغلغل في مؤسساتها، لتصبح، مع الوقت، جزءاً فاعلاً مؤثراً في توجيه ملامح السياسات الأمنية والعسكرية ورسمها، وحتى التأثير في التحالفات السياسية الداخلية من خلال الواجهات السياسية لأذرعها العسكرية. وذلك مقابل تراجع الدور العربي المؤثر، خصوصا في سورية ولبنان والعراق.
تركيا بحكم دورها المؤثر في سورية والعراق وليبيا، سواء من الناحية الميدانية أو السياسية، وبحكم علاقاتها مع مختلف الأطراف الإقليمية المؤثرة تستطيع أن تؤدّي دوراً إيجابياً في تهدئة الأوضاع، ودفع الأمور نحو الاستقرار في الإقليم. ولكن هذه الخطوة لا يمكن أن تكون مجدية وفاعلة، من دون التنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصا السعودية التي تظلّ، بحكم ثقلها العربي والإسلامي والدولي، الجهة الأكثر تأثيراً في ميدان ضبط التوزانات الإقليمية، شرط توفر المقوّمات المطلوبة، لا سيما من ناحية استعداد بقية الأطراف للتفاهم والبحث عن القواسم المشتركة، عوضاً عن الاستمرار في سياسة التصعيد، وخلخلة بنية مجتمعات الجوار.
ولكن استقرار المنطقة لا يقوم على تطبيع العلاقات بين دولها المؤثرة فحسب، بل يستوجب هذا الاستقرار المنشود معالجة قضيتين أساسيتين، أدتا، وستؤديان دائماً، إلى النزاعات والاصطفافات، ومحاولات الاستغلال من دول المنطقة، وحتى من القوى الدولية، ونعني بهما القضيتين، الكردية والفلسطينية، فتركيا اليوم تحتاج معالجة جريئة للقضية الكردية التي تعد الأكبر قياسا إلى حجمها في الدول الأخرى (إيران، العراق، سورية) فهي تخص ما بين 20 مليونا إلى 25 مليون مواطن يعيشون في المناطق الكردية الواقعة في جنوب شرق تركيا، وهناك ملايين الكرد الموزّعين بين مختلف المدن الكبرى، لا سيما إسطنبول وأنقرة وأزمير؛ ويؤثرون في المعادلات السياسية الداخلية بصورة واضحة.
وهذه القضية لن تعالج عبر التجاهل، أو الغائها في الأذهان، أو التعامل معها بوصفها قضية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، المصنّف حزبا إرهابيا من تركيا نفسها، والحكومات الغربية، وهو تصنيفٌ لم يعد مؤثراً كما كان في السابق، وذلك بعد الانفتاح الأميركي، والغربي، على حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري للحزب المعني، الذي يتحكّم اليوم بمنطقة شرق الفرات، وله وجود مؤثر في إقليم كردستان العراق، كما أنه يؤثر في كردستان إيران. وعلى الرغم من أنه يظل الحزب الأقوى، والأكثر تأثيراً، إلا أنه لا يمثل المرجعية الوحيدة للكرد في تركيا؛ لكنه يبقى جهة أساسية لا بد من التواصل معها في أي سعيٍ إلى حل سلمي مستدام للقضية الكردية في تركيا. وهو الحل الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية قبل نحو عقد تقريباً، غير أن هذا الحل تعثر بفعل عوامل عدة، داخلية وخارجية.
هناك اليوم حاجة لإحياء الحكومة التركية العملية السلمية، أو بكلام أدقّ من الدولة التركية، لأن القضية الكردية في تركيا لا ينبغي أن تعتبر قضية انتخابية أو سياسية تخصّ هذا الحزب أو ذاك، وإنما هي قضية وطنية عامة على مستوى تركيا بأسرها، تستوجب حلاً وطنيا عادلاً ضمن إطار وحدة الدولة والشعب، وعلى أساس احترام الخصوصيات والحقوق، وإزالة الغبن بكل أشكاله. وهذا الأمر إذا ما تحقق، سينعكس إيجاباً على أوضاع العراق وسورية، إذ سيصبح الملف الكردي ضمن الدولتين جزءاً من الملف الوطني العام في كل منهما، الأمر الذي سيسهل عملية المعالجة، لا سيما في سورية، بعيداً عن التأثيرات والوصايات والتدخلات الإقليمية والدولية. كما سيؤثر الأمر المعني بصورة إيجابية في أوضاع تركيا الداخلية، ويعزّز دورها الإقليمي والدولي بطبيعة الحال.
وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فهي الأخرى ما زالت، وستظل، قضية حيوية ملتهبة تؤثر في الاستقرار الإقليمي. استغلتها كثيراً حكومات المنطقة التي عملت، وما زالت تعمل، على الاستثمار في عدالتها، بهدف استغلالها بما ينسجم مع مصالحها ومشاريعها الإقليمية. هذا ما فعلته الأنظمة تحت شعارات قوموية في كل من سورية والعراق ومصر، وما فعلته، وتفعله إيران عبر ما يسمى "محور المقاومة والممانعة".
هناك قرارات دولية واضحة تعترف بحق الشعب الفلسطيني، وهناك توجّه أممي يتمحور حول حل الدولتين، الذي يعد الحلّ الواقعي الممكن أمام الإصرار الإسرائيلي على موضوع "يهودية الدولة". ومن دون التوصل إلى حل واقعي مستدام يضمن الحقوق الفلسطينية، لن يكون هناك استقرار في المنطقة. وتستطيع تركيا، بالتعاون مع مجلس التعاون الخليجي، والدول العربية التي "طبّعت" العلاقات مع إسرائيل، أن تشكل ضغطاً إقليمياً يدفع نحو مفاوضات جدّية بين الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، بموجب القرارات الأممية في هذا المجال؛ وبالتنسيق مع المواقف الدولية، لا سيما الغربية، وتحديداً الأميركية.
حل القضيتين المعنيتين، أو على الأقل وضعهما على سكة الحل، سيعطّل أسبابا كثيرة تؤدّي إلى انفجار الأوضاع في منطقتنا من حين إلى آخر. وسيفتح الآفاق أمام دول المنطقة للتعاون الجاد في مشاريع تنموية نهضوية، تمتلك المنطقة الموارد التي تحتاجها، مشاريع تكون نتائجها في صالح شعوب ودول المنطقة بأسرها.
العالم هو اليوم على شفا حرب عالمية، وإنْ مقنّعة. ومنطقتنا التي أنهكتها الصراعات والحروب عقودا ستكون ضحية حروب عبثية كارثية إذا ما تفاقمت الأمور، حروب تؤجّجها نزعات مذهبية وإثنية وتدخلات دولية؛ هذا ما لم تبادر دول المنطقة نفسها إلى اتخاذ قراراتٍ شجاعةٍ تؤكد أن التعامل مع القضايا الاستراتيجية الكبرى لا يكون ناجعاً مثمراً إذا ما اقتصر على ردود الأفعال والمواقف المنفردة لهذه الدولة أو تلك، مهما امتلكت من إمكانات. فما يجري راهناً، وما هو متوقع مستقبلاً، يتطلب تفاهماً إقليمياً جادّاً بين مختلف الأطراف يؤسّس لمرحلة جديدة عنوانها: التطلع نحو المستقبل عبر حل المشكلات لا افتعالها.
المصدر: العربي الجديد