يحيى العريضي
لم تكن القوة الذاتية للمشروع الصهيوني هي الوحيدة التي أبقت على كيان مُصطَنَع لا يمتلك مِن مقومات الدولة شيئاً؛ فلم يكن الدعم الغربي محصِّناً كافياً لاستمرار كيان غريب في بيئة معادية بالمطلق؛ بل هناك عشرات الأسباب المدعِّمة لحماية استمراره وطغيان قوته، وعلى رأسها منظومات حُكم مستبدة تم إيصالها للسلطة بعناية شديدة، لتقوم بمهمة المتحَكِّم بمصير شعوب المنطقة ومواردها. وكان الأكثر فاعلية ودهاءً وأهمية في القيام بهذا الدور المشبوه، في بقاء واستمرار وقوة هذا المشروع الصهيوني الاستعماري، منظومة الاستبداد الأسدية.
شكّلت الانتفاضات الفلسطينية خطراً على الكيان الصهيوني، إلا أن احتواءها لم يكن بالأمر الصعب؛ أما الانتفاضة العربية مطلع العقد الثاني من هذا القرن، فكانت مصدر خطر وجودي عليه، وخاصةً إذا ما تحررت هذه الشعوب من ربقة المتحكمين بمصيرها. كان لا بد من استنفار إسرائيلي فريد من نوعه تاريخياً تجاه ذلك، وخاصة ما يحدث في سوريا. وهنا، لا بد أنه راق لإسرائيل شعار "الأسد أو نحرق البلد"؛ وها هو الأسد يبقى شكلاً فارغاً مكشوفاً مرتبكاً معزولاً مسلوب الإرادة بلا سلطة أو موارد أو قوة؛ والبلد احترق، والاحتلالات تمزق منظومة كانت مريحة لإسرائيل فعلياً. أما شعب هذا البلد الصامت منزوع القوة- ورغم قتله واعتقاله وتدمير حياته وتشرده، وتشرذم وسوء من يقود معارضته- فباقٍ على ثورته ومصمم على نيل حريته، والالتفات إلى مصدر وجعه التاريخي. وهذا مقلق ليس لإسرائيل فقط، بل لكل حماتها المباشرين وغير المباشرين.
قد ولّى زمن مؤتمر مدريد لمفاوضات عربية- إسرائيلية كجائزة ترضية ومكافأة لاشتراك الأسد في الحرب على العراق
تاريخياً، وبحكم لا شرعيته جوهرياً، تلطّى "نظام الأسد" بيافطة "المقاومة والممانعة والصمود والتصدي"؛ ولم يكن أيٌّ من هذا إلا مسألة خلبية للبقاء. وكلما يقع في أزمة، لا بد من حضور ورقة "الجوكر" الإسرائيلية إما خُلسَةً أو علناً. وبقي الانكشاف الحقيقي لهذه العلاقة خطاً أحمر؛ فانكشاف كهذا يعني النهاية الانتحار. فبعد الذي حدث في سوريا، لم يعد التلطي حيناً بالقضية الفلسطينية والشعارات البراقة في "المقاومة والممانعة" و"الصمود والتصدي"، والاختباء في ظل "أوسلو"، ودعاية "الحرب الكونية" على النظام تفيد أو تنطلي على أحد. وكان قد ولّى زمن مؤتمر مدريد لمفاوضات عربية- إسرائيلية كجائزة ترضية ومكافأة لاشتراك الأسد في الحرب على العراق؛ ولم تكن محاولات تركيا للسلام والتطبيع مع إسرائيل ذات جدوى؛ ولا محاولات موسكو، التي تحتل جزءاً من سوريا وتتحكم بمصير النظام، تثبت جدواها في تطبيع أسدي - إسرائيلي، حيث كان الهدف منها التودد الروسي للكيان، ليس إلا؛ وليس تقديم قادة الإمارات أوراق اعتمادهم لإسرائيل مؤخراً، وسحب الأسد بالمعية، كي يطبع بوضوح وعلنية، ممكنة. لقد تغيّر الزمن والأحداث طوت الكثير من مستلزمات هذا التطبيع.
مؤخراً، يرتفع منسوب الحديث عن تطبيع بين "نظام الأسد" و"إسرائيل"؛ وفي هذا السياق، يصدر كتاب الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق، "فردريك هوف" /بلوغ المرتفعات/؛ حيث يعبّر المسؤول الأميركي عن أسفه وحسرته تجاه فرصة لم تُلتَقَط. وقد كان "إيتمار رابينوفيتش" رئيس وفد إسرائيل للمفاوضات السورية - الإسرائيلية في واشنطن قد سبقه في منتصف تسعينيات القرن الماضي بكتابهThe road not taken) / الطريق الذي لم يُسلك( إثر فشل مفاوضات واشنطن بين نظام الأسد وإسرائيل. فإذا كان "الطريق، الذي تحدث عنه "رابينوفيتش"، لم يسلك طوعاً"، لأنه أتى بلحظة قوة أسدية تستطيع أن تبقي على الوضع القائم، والتمتع بسمعة "المقاومة والممانعة"؛ فإن "بلوغ المرتفعات" بحسب "هوف" يأتي في وقت و"نظام الأسد" في أحلك لحظات ضعفه؛ وسلوك الطريق أو صعود المرتفعات سيكون انكشافاً يساوي الانتحار.
ويبقى السؤال الأهم: هل تحتاج إسرائيل أن تطبّع مع منظومة استبدادية منحتها كل ما أرادته لأربعة عقود، ودمّرت لها سوريا في العقد الخامس؟! ربما كان نافعاً لإسرائيل أن تطبع مع النظام في أي وقت، إلا في هذا الوقت؛ فهو الآن يحمل أوزاراً، حتى إسرائيل لا تستطيع حملها أو رفعها عنه. والأهم من كل ذلك، أن إسرائيل تعرف بأنه نظام مهترئ، ولا يستحق منها حتى مكافأة نهاية خدمة.
ما الغاية إذن من إرهاصات كهذه، حتى ولو كانت صحيحة؛ وخاصة أن أخطر ما يمكن أن يتعرض له نظام الأسد هو انكشاف وعلنية وحقيقة علاقته مع إسرائيل، وانفضاح كذبة "المقاومة والممانعة والصمود والتصدي" التي عاش عليها، وزاود على الجميع بظلها، وقتل السوريين متسلحاً بها، وجعل موالاته مُقعدِين عقلياً وأخلاقياً بظلها؟!
لقد كسبت إسرائيل ما لم تكن تحلم به خلال سنوات المأساة السورية؛ إلا أن هذا الجنى مرحليٌّ؛ فعمر الشعوب لا يقاس بسنة أو بعقد أو بقرن. ربما كان بودّها ألا يصل نظام الاستبداد الخادم لها إلى هذا الحد. لقد سقطت ورقة التوت وانكشفت عورته؛ ولم يعد هناك ما يتلطى به، ولم يبقَ أمامه إلا الانكشاف والعلنية في علاقته مع محتل الأرض، والانتحار. إذن، منظومة الاستبداد بين مطرقة الموت البطيء نتيجة الكارثة التي ألحقتها بسوريا، والموت انتحاراً إذا أضحت علاقتها بإسرائيل علنية.
لقد وصل النظام الأسدي إلى حافة الهاوية فعلاً؛ إنه في حالة يأس قاتلة؛ وما بقي أمامه إلا الانكشاف. فإن تمخض شيء عن المحاولة، فلا بأس؛ وإن لم يحصل يقوم بتكذيب ما يُشاع
وتبقى معضلته الكبرى؛ فإذا كان الشرط الأساس لهذا التطبيع، فصل منظومة الاستبداد عن نظام الملالي، فهل يمكن فصل مَن وقف مع إيران ضد العرب، ومن وقفت إيران معه ضد شعبه والعالم؟! أليس تحقيق هذا الشرط كمن يحاول فصل توءم سيامي؟! مصيبة النظام أن هذا هو الشرط الأساسي لنجاته الحالية عبر التطبيع العلني مع إسرائيل؛ وخاصة أن وزير دفاع الكيان يقول مؤخراً: "إما نحن، أو إيران".
لقد وصل النظام الأسدي إلى حافة الهاوية فعلاً؛ إنه في حالة يأس قاتلة؛ وما بقي أمامه إلا الانكشاف. فإن تمخض شيء عن المحاولة، فلا بأس؛ وإن لم يحصل يقوم بتكذيب ما يُشاع، ويستعيد بعض ماء الوجه أمام موالاته على الأقل، ويبرر شيئاً من الوضع المأساوي الذي وصلت إليه سوريا قائلاً: "ها هي المؤامرة الكونية مستمرة، وعناصرها يتهمون نظام المقاومة بالتواصل مع إسرائيل، بكذب وتجنٍ وظلم!!" وبذا يحافظ على سردية عاش بظلها كل هذه السنين، ويستعيد عقولاً برمجها؛ بدأت "تشك" به.
في المحصلة، نظام الأسد الآن أمام جملة من خيارات الموت؛ وكلها مرتبطة جدلياً وعضوياً بعضها ببعض: - الموت البطيء نتيجة الكارثة التي أوصل سوريا إليها؛ - الموت نحراً، من قبل إيران، إذا ما نفّذ الشرط وقطع علاقته معها؛ - الموت انتحاراً، إذا ما طبّع علاقته مع إسرائيل علنياً.
المصدر: تلفزيون سوريا