عبدالناصر العايد
تطرقنا في المقال السابق، إلى ربع القرن الأول من حياة الدولة السورية الوليدة، التي ألفها الفرنسيون من طبقة سياسية تسيطر عليها النخبة السنيّة المدينية، ومؤسسة عسكرية تهيمن عليها الأقليات. وانتهت تلك الحقبة باستيلاء الجيش على الميدان السياسي أيضاً، وإزاحة الطبقة السياسية التقليدية الضعيفة، ليبدأ فصل جديد من الصراع الاجتماعي السياسي السوري بين الغالبية الدينية والأقليات، المحصور في بوتقة الجيش، بعدما عطّل الحياة المدنية العامة بكافة جوانبها.
فبعد بضعة أشهر من انقلاب حسني الزعيم، انقلبت عليه مجموعة من رفاقه، بقيادة سامي الحناوي، وقتلوه في آب 1949، وشكلوا قيادة جديدة للبلاد سُمّوها المجلس الحربي الأعلى المكون من "الزعيم سامي الحناوي (سني، كردي)، العقيد علم الدين قواص (علوي)، المقدم أمين أبو عساف (درزي)، الرؤساء محمد معروف (علوي) عصام مريود (سني من عشائر الجولان) خالد جادا (شركسي)، محمود الرفاعي(سني)، محمد دياب (اسماعيلي)، الملازم حسين الحكيم (اسماعيلي)"[1]. وأُضيفَ العقيد بهيج كلاس(مسيحي) إلى المجلس، مع أنه لم يكن من منفذي الانقلاب.
تنبه العسكريون السنّة إلى خطورة هذا التطور، وانطلق ما يمكن أن ندعوه بالطائفية المضادة، ابتداء من انقلاب أديب الشيشكلي الأول، في كانون الأول 1949، إذ حاول إعادة الاعتبار للفئة المدينية باستعادة الحياة السياسية وبعض رموزها، مثل هاشم الأتاسي ومعروف الدواليبي، لكن استمرار نفوذ شركائه في "مجلس العقداء" وكلهم من الأقليات، كان يقلقه، وحاول استبعادهم عندما قام بانقلابه الثاني، في تشرين الثاني 1951، والاستعانة على هذه الكتلة العسكرية بالخزان المدني، فرشّح نفسه لرئاسة الجمهورية وفاز بها، وأسس حزباً سياسياً، وأصدر الكثير من المراسيم والقوانين "بهدف خلق دولة عربية إسلامية متجانسة"[2]. ويذكر العقيد جاسم علوان، الذي كان من مدربي الكلية الحربية، أن "الشيشكلي أمره بتفضيل العرب المسلمين السنّة على الأقليات الدينية والعرقية داخل فصوله بالكلية العسكرية، وفي ذلك الوقت رفض علوان هذه الفكرة، إذ كان مدرباً في الفصل الذي ضمّ ضباطاً علويين أمثال حافظ الأسد وعلي أصلان ومحمد نبهان"[3].
وواجهت سياسات الشيشكلي الجدار، عندما انتفض الدروز سنة 1954، فقصف بعض قراهم بالطائرات، وسرعان ما تشكل حلف كبير من ضباط الأقليات، أرغمه على الهرب من البلاد سراً. (الصورة إلى اليسار: اللواء سامي الحناوي، ميشيل عفلق، أسعد طلس، وصلاح البيطار... بعد نجاح انقلاب الحناوي)
لم يكن الشيشكلي وحده من يتخوف من تنامي قوة الأقليات في الجيش، وتزايد أعدادهم، على الرغم من كل المحاولات السابقة لكبح جماح اندفاعتهم. فالضباط منهم، ما إن يصلوا إلى مواقع قيادية حتى يستدعوا "أقاربهم من مجتمعاتهم الطائفية والإقليمية والعشائرية، ويمدوا لهم يد العون ليتقدموا ويتم قبولهم في الكليات العسكرية"[4]. وتنبيء بذلك حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي، فمن جهة قتل على يد مجموعة من العسكريين العلويين اتهم العقيد غسان جديد بقيادتهم، ومن جهة أخرى يُنسب للمالكي سعيه لتقليص أعداد الأقليات في الجيش، خصوصاً العلويين، من خلال منصبه كرئيس للشعبة الثالثة، المسؤولة عن تنظيم التجنيد والتنقلات. ونُقل عن عبد الحميد السراج، رئيس مكتب المخابرات العسكرية حينها، والذي تولى التحقيق في حادثة الاغتيال، صدمته حين اكتشف "أن ما لا يقل عن 55% أو نحوه من ضباط الصف كانوا من الطائفة العلوية"[5].
لقد دفع يأس الضباط السنّة من قدرتهم على ضبط الأمور داخل الجيش، وخشيتهم من وصول الأقليات إلى الحكم، إلى طيران 16 ضابطاً منهم إلى القاهرة، من دون علم القيادة السياسية المدنية المتمثلة في رئيس البلاد شكري القوتلي، وتوقيعهم هناك على "تعهد الوحدة"، الذي ناشدوا فيه جمال عبدالناصر المبادرة إلى إقامة وحدة اندماجية فورية، على رأسها دمج الجيش السوي بالمصري، على أمل أن يضع ذلك حداً لاستفحال قوة ضباط الأقليات في جيش بلادهم.
لاقى الضباط السنّة بالفعل معاملة تفضيلية من قيادة "دولة الوحدة"، فقد قصرت المناصب العليا والحساسة عليهم. ويقول اللواء عبد الكريم زهر الدين، في مذكراته عن حقبة الوحدة، إن القيادة المصرية رفضت تعيين المقدم جادو عز الدين، قائداً للجيش الأول، مع أنه من أشد ضباط الجيش حماساً للقومية العربية وقائدها في ذلك الحين جمال عبد الناصر، وأن الرفض جاء "أساساً لكونه درزياً"[6]. من ناحية أخرى تم تفريق الضباط من الأقليات، وتبديد شملهم، من خلال تعيينهم في وحدات متباعدة في الإقليم الجنوبي (مصر)، وأمام هذا التطور غير المحسوب، بادر عدد منهم إلى تأليف ما عُرف باللجنة العسكرية، فكانت الرد الموضوعي على "تعهد الوحدة" الذي وقعه زملاؤهم السنّة، وقد أسسها "خمسة ضباط من بينهم ثلاثة علويين وهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، واسماعيليان هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير"[7].
لقد شكلت نحو ثلاث سنوات من الوحدة، تحولاً عميقاً في بنية الجيش السوري، لكنه لم يعد إلى التوازن كما قد يفترض، بل عاد إلى نمط سابق من الصراع، محوره السنّة المدينيون، لكن من البوابة العسكرية. فقد تقدمت كتلة الضباط "الشوام" أي الدمشقيين، لتحتل بمباركة مصرية "مراكز قوية على نحو استثنائي"[8]. وتحت الظن بأن الصراع مع الأقليات قد حسم لصالحهم، بادروا إلى فصم عرى الوحدة، عندما نفذوا انقلاباً قاده المقدم عبد الكريم النحلاوي في 28 أيلول 1961، اعلنوا من خلاله الانفصال عن مصر.
وكما فعل أسلافهم من النخبة السياسية المدينية والدمشقية على وجه الخصوص، انكفأ الضباط الدمشقيون على فئتهم الاجتماعية، وتشكل المجلس العسكري من عشرة أعضاء، خمسة منهم ضباط دمشقيون سنّة، وأربعة سنّة آخرون غير دمشقيين، أحدهم شركسي، ودرزي واحد، ولم يُمثّل العلويون بأي ضابط.
قاد هذا الوضع، ضباط الأقليات المتحدين عبر اللجنة العسكرية السرية، للتحالف مع الكتلة السنّية الريفية، خصوصاً "مجموعتي دير الزور وحوران"[9]. وفي 28 مارس/آذار 1962، تمكنوا من طرد النحلاوي "من سورية مع خمسة من أبرز زملائه العسكريين الدمشقيين"[10]. وسيتبقى لضباط الأقليات أن يتخلصوا من كتلة الضباط الريفيين، من أمثال العقيد جاسم علوان، لتنتهي حقبة الصراع على "الدولة" في سوريا، والتي انحصر فيها تداول السلطة في العسكريين المنقلب بعضهم على بعض، وفق محور رئيسي واضح بين السنّة المدينين والأقليات الطائفية الريفية، بهزيمة الطرف الأول، ولتبدأ حقبة الصراع في معسكر الأقليات ذاتها على القيادة، وهو ما سيحدث اعتباراً من انقلاب 8 اذار 1963، وهو موضوع مقالنا المقبل...
يتبع
المصدر: صحيفة "المدن"