العقيد عبد الجبار عكيدي
يشكل الغزو الروسي لأوكرانيا حدثاً كبيراً يمكن أن يجعل الدول الكبرى تعمد إلى تعديل استراتيجياتها السياسية، ذلك أن تلك الحرب لم تعد مجرد معركة مصالح آنية، بل تمثل في بعض جوانبها حرب وجود، ولئن كان الطموح الروسي يقلق الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين في وقت سابق، فإنه بعد غزو أوكرانيا لم يعد يهدد مصالح الغرب فقط بل يهدد كيانهم في الصميم.
لقد كان الشرق الأوسط في طريقه لأن يكون مسألة ثانوية بالنسبة لأميركا، لكنه عاد إلى واجهة الاهتمامات الأوروبية والأميركية، ذلك أنه لا يمكن فصل ماضي الأحداث عن سيرورتها الراهنة، ولا شك أن الشراسة الروسية تجاه أوكرانيا قد أعادت إلى أذهان الغرب مواقفهم السابقة من سياسة بوتين وخاصة حيال القضية السورية، ولعلهم الآن يُجمعون على أن التفويض الذي حصل عليه الرئيس الروسي أواخر العام 2015، بالعدوان على الشعب السوري، وتقديم سوريا على طبق من فضة لتكون لقمة سائغة للروس، كان خطأ استراتيجياً فادحاً في السياسة الغربية.
لعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل ثمة نوايا جدية لواشنطن وحلفائها بتعاط جديد مع القضية السورية، بعد الهجوم على أوكرانيا؟
واقع الحال يشير إلى معطيات كثيرة ربما تحيل إلى استراتيجيات غربية جديدة تجاهها، ولو أنها لم تتبلور على الواقع الملموس بشكل واضح إلا أنها إرهاصات واضحة الدلالة في هذا السياق.
منها على سبيل المثال، إحياء موجة تواصلات تقوم بها جهات غربية دبلوماسية وسياسية مع شخصيات وطنية سورية، عسكرية وسياسية، بينهم قادة سابقون وحاليون في الجيش الحر والفصائل العسكرية المسلحة بهدف استكشاف إمكانية استئناف التعاون من جديد على صعيد العمل المسلح في سوريا.
تكاد تكون المقارنة بين ما فعله بوتين في سوريا وما يفعله الآن في أوكرانيا لازمة من لوازم أي إحاطة بالحرب الأوكرانية، ولعل المناكفة المثيرة بين وزير خارجية السعودية ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي على هامش الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة الاقتصادي الأخير، التي تناولت موضوع المقارنة بين مدينتي حلب وماريوبول الأوكرانية، تؤكد أن القضية السورية باتت محور اهتمام الأوروبيين وكذلك الدول الإقليمية والعربية الفاعلة، وتأكيداً على فحوى هذه التحركات الغربية لعودة القضية السورية إلى الصدارة الإعلامية في الكثير من الدوائر الغربية.
في ظل هذه التحركات ما هو المطلوب من المعارضة بكل أطيافها حيال هذه الانعطافة الغربية تجاه قضيتهم، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التحركات؟
المطلوب كثير، ذلك أن المعارضة السورية سياسيا وعسكريا ليست في أحسن حالاتها، ولكن مهما كانت حالة الضعف والتشظي فلا خيار أمام السوريين إلا التعاطي بكل جدية مع الموقف الغربي الجديد، والجميع يدرك أن أول ما يحتاجه السوريون هو تقوية دعائم بيتهم الداخلي، أي العودة إلى مؤسسات الثورة وإعادة بنائها بناءً يوازي المهام الوطنية الموكلة إليها.
إعادة نظر المعارضة بعلاقاتها الدولية والإقليمية على ضوء ما يجري في العالم اليوم، وتلك الخطوات لا شك أنها صعبة قياسا إلى راهن هذه المعارضة السيئ، إلا أن هذه الصعوبة يمكن تذليلها إذا توفرت الإرادة الوطنية، وتم تغليب المصلحة العامة على المصالح الدونية.
المسؤولية لم تعد تتوقف على المؤسسات الرسمية للمعارضة، ذلك أن هذه المؤسسات لا يعول عليها الكثير، بل يمكن أن تكون عاملاً معطلاً ومعيقاً لأي حركة إحياء وطني جديدة، ولكن ما يعول عليه الآن تحديدا هو قوى وقادة وطنيون من خارج تلك المؤسسات، لا يمكن أن يقدموا مصلحة أي دولة أخرى على المصالح الوطنية السورية، قادرون على إعادة تنظيم وهيكلة مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية للاضطلاع بمهامها في ظل هذه المتغيرات الدولية.
إن إمكانية استئناف التعاون بين الثوار والغرب وحلفائهم الإقليميين يبدو اليوم هدفاً ومطلباً مشتركاً بين قوى الثورة ودول العالم الحر، فلكلا الطرفين اليوم مصلحة في كسر شوكة الروس وتقليم أظافر أذرعها التي زرعتهم ونمتهم في سوريا، لتنطلق بحربها على أوكرانيا، لكن هذا الأمر ليس بالسهولة المتصورة، ولا يمكن أن يكون على الطريقة الرغبوية الانفعالية التي تغلب عليها العاطفة، كما يطالب بها الكثير من المعارضين والثوار السوريين.
يجب التمييز هنا بين الأطوار الذهبية للثورة ميدانيا وعسكريا وبين المآلات الموجعة الراهنة، فمعلوم أن المعطيات على الأرض هي المانح لقوة السياسة، ولعله غني عن القول إن مجمل القرارات الدولية، وخاصة بيان جنيف1 والقرار 2118 قد صدرت حين كانت قوى الثورة هي من يتحكم بالأرض، والثورة منتصرة عسكريا، أما اليوم فبات الواقع مختلفا إذ أصبحت معظم أوراق القضية السورية مرهونة بمصالح قوى إقليمية ودولية وهي التي تمسك بخيوط الملف السوري وتتحكم في سيرورته.
إن نجاح أي خطوة وطنية في هذا المسعى وخاصة على الصعيد العسكري، لا بد أن تكون مقرونة بتفاعل جدي من جانب الغرب، والسؤال هنا ما هو المطلوب من أميركا والغرب:
أولاً- تجاوز المواقف الإعلامية والانتقال إلى مواقف أكثر عملية حيال القضية السورية، وأن يكون هناك قرار سياسي جدي من قبل هذه الدول بالوقوف إلى جانب الشعب السوري، والوصول إلى أرضية اتفاق عسكري مشترك معها، يغطي مسارح العمليات بكل وسائل التأمين، بحيث يكون الإمداد متنوعاً وفعالاً ومستمراً.
ثانياً- اتخاذ الوسائل العملية التي تحد من، أو تعطل إجرام بوتين والأسد بحق الشعب السوري، من خلال توفير وسائط الدفاع الجوي، والصواريخ المضادة للدروع (تاو، جافلين) وغيرها من الأسلحة المتطورة القادرة على تغيير موازين القوى لصالح فصائل الجيش الحر.
ثالثاً- في ظل رفض إقامة أميركا والغرب لمنطقة حظر طيران فوق سوريا، لحماية المناطق المحررة شمالي وشمال غربي سوريا، المكتظة بالسكان المدنيين وآلاف المخيمات التي ستكون هدفاً رئيسياً للطائرات الروسي، لا بد من تزويد الجيش الحر بصواريخ مضادة للطائرات من نوع (ستنغر)، كما فعلت في أوكرانيا، تحد من حركة الطيران، ويمكن استخدامها أيضا في جبهات الساحل ذات التضاريس الجبلية القاسية، لتشكيل كمائن نارية تهدد الطائرات الروسية أثناء الإقلاع والهبوط في قاعدة حميميم القريبة، بالإضافة لصواريخ (غراد) التي تصل حتى 40 كم ومنها حتى 80 كم من النوع المتشظي الذي يمكن أن يكون له تأثير كبير على الطائرات الروسية الرابضة في القاعدة.
رابعاً- تعاون هذه الدول مع الدول الإقليمية الثابتة على موقفها الداعم للثورة السورية وعلى رأسها تركيا وقطر والسعودية.
إن هذه الأفكار على وضوحها تحتاج إلى تواصل جدي ومناقشات معمقة ومسؤولة تتجاوز الاتصالات التي تجري اليوم على نطاق ضيق، ومع ذلك فإن كل هذه الاتصالات وإن كانت على نطاق محدود، بل ويمكن القول إنها أولية لجس النبض والاستكشاف، إلا أنها مؤشر هام على إمكانية أن تعود القضية السورية وميدانها لتأخذ الدور الذي تستحقه كقضية مركزية عرف الروس والإيرانيون قيمتها بينما جهل الآخرون أو عجزوا عن إيلائها الأهمية التي تستحقها.
المصدر: تلفزيون سوريا