تستهدف الهجمات الروسية منذ 24 فبراير/شباط الماضي وبشكل أساسي المناطق الجنوبية من أوكرانيا وتلك التي تقع في الشرق على طول سواحل بحر "آزوف" المتفرع من البحر الأسود في جزئه الشمالي، ويتصل به عن طريق مضيق كيرتش. وفي حال استولت موسكو على هذه المناطق، فستقوم ببسط سيطرتها بالكامل على البحر الاستراتيجي الذي يطل على الشواطئ الأوكرانية من شماله، وعلى روسيا من شرقه، وشبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها موسكو منذ عام 2014، من غربه، ليكون ذلك بمثابة فوز عسكري كبير لها.
لم تكن الحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا "خاطفة" كما أرادها الرئيس فلاديمير بوتين. فمنذ أكثر من شهر، لا تزال القوات الروسية والأوكرانية تتشابك فيما بينها في العديد من المناطق على الأراضي الأوكرانية، على غرار جنوب وشرق البلاد حيث تسعى القوات الروسية إلى الاستيلاء على المنطقة الممتدة بين البحرين الأسود و"آزوف".
وبدأ هذا الهجوم، الذي يمتد على أراضي شاسعة من إقليم "دونباس" التي استولى عليها الانفصاليون الموالون لروسيا في 2014 لغاية أبواب مدينة ميكولاييف مرورا بمدينتي ميليتوبول وبردياسنك ثم شبه جزيرة القرم التي استولت عليها روسيا أيضا في 2014.
فيما يبدو أن روسيا تريد اتباع نفس الاستراتيجية إذ أعلنت الجمعة الماضي بأنها ستكثف هجماتها على المناطق الواقعة شرق أوكرانيا من أجل "تحرير" إقليم دونباس.
ووفق جان سيلفستر موغرونيه، الباحث في المعهد الفرنسي الجيوسياسي بجامعة باريس 7 وباحث مشارك في معهد توماس مور، ففي حال تمكنت روسيا من السيطرة على جنوب شرق أوكرانيا بدء من حدود إقليم دونباس، فهذا سيمنحها فوائد جيوسياسية كبيرة.
وقال لفرانس24: "إذا سيطر الروس على الضفة الشمالية لبحر آزوف فهذا يعنى أن هذا البحر سيصبح ملكا لروسيا كونه سيقع داخل مياهها الإقليمية وحدودها البحرية".
لكن الجيش الروسي لم يصل بعد إلى هذه النقطة. وعلى الرغم من القصف المتواصل الذي يستهدف مدينة ماريوبول الساحلية والوضع الإنساني المزرى فيها، إلا أن هذه المدينة لم تسقط بعد خلافا لمدينة خيرسون الواقعة غرب البحر الأسود والتي سقطت كاملة في يد القوات الروسية التي تحاول أن "تحاصر" مدينة ميكولايف بهدف الوصول بعد ذلك إلى مدينة أوديسا الساحلية"، حسب وزارة الدفاع البريطانية.
تضييق الخناق على أوكرانيا من الجنوب
وفي حال استولت روسيا على كل المناطق التي ذكرناها سالفا، فستكون العواقب على أوكرانيا وخيمة. لأن ماريوبول وبيرديانسك وأوديسا تتواجد فيها موانئ كبيرة تقوم أوكرانيا عبرها بتصدير القمح والحديد.
وأضاف جان سيلفستر موغورنييه، الباحث في المعهد الفرنسي الجيوسياسي بجامعة باريس 7 والباحث مشارك في معهد توماس مور أن أوكرانيا "تواجه مشكلتين في آن واحد. المشكلة الأولى هي الحرب المباشرة التي تخوضها مع روسيا، فيما تتمثل الثانية في الاختناق الاقتصادي الذي وقعت فيه بسبب الحصار البحري الروسي الذي قد يحرمها من أي ممر بحري".
وجغرافيا، بحر "آزوف" متفرع من البحر الأسود في جزئه الشمالي، ويتصل به عن طريق مضيق كيرتش، يطل على الشواطئ الأوكرانية من شماله، وعلى روسيا من شرقه، وشبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها موسكو منذ عام 2014، من غربه. ومنذ 2014، تسيطر موسكو على ضفتي مضيق كيرتش. إذ تقع الضفة الشرقية للمضيق في شبه جزيرة ترمان الروسية، والضفة الغربية في شبه جزيرة القرم.
روسيا تخلط الأوراق من جديد
وعززت روسيا السيطرة على بحر "آزوف" في 2018 بعدما شيدت جسرا يربط شبهي الجزيرة حسب الباحث جان سيلفستر موغورنييه الذي أوضح لفرانس24: "منذ تلك الفترة (أي منذ 2018) بدأت روسيا تتصرف كأن البحر ملكها الخاص".
وأضاف من جهته لوي بيتنيو، وهو باحث في مركز الأبحاث "جيود" ومتخصص في شؤون أوكرانيا وروسيا: " جسر "كيرتش" كان يمنع مرور بعض السفن الأوكرانية. وهذا ساهم في تقليص بشكل كبير حركة الملاحة البحرية في ميناء ماريوبول وبيرديانسك اللذين يعتبران من أبرز الموانئ في أوكرانيا، فيما تم تغيير مسار الحركة التجارية نحو موانئ أوكرانية أخرى تملك مخرجا نحو البحر الأسود".
وبعدما تم بناء الجسر، قامت البحرية الروسية باستهداف سفن عسكرية تابعة لأوكرانيا واستولت على ثلاثة منها في 2018 بحجة أنها دخلت المياه الإقليمية التابعة لشبه جزيرة القرم التي لم تعترف أوكرانيا بضمها من قبل انفصالين روس.
وكانت روسيا وأوكرانيا قد وقعتا على اتفاق في 2003 ينص على أن بحر "آزوف" يتواجد في المياه الداخلية التابعة لموسكو وكييف. كما يسمح الاتفاق أيضا على "التنقل الحر" لسفن البلدين، بما في ذلك السفن العسكرية. لكن ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا أعاد خلط الأوراق من جديد.
"فلاديمير بوتين يريد بناء روسيا الجديدة"
هذا، وأكد الباحث لوي بوتنيو أن "بحر "آزوف" لا يشكل أهمية كبرى بالنسبة لروسيا لكنه يعد مدخلا إلى البحر الأسود الذي يعتبر استراتيجيا بالنسبة للملاحة البحرية العالمية".
ولا تسعى موسكو لإيجاد مخرج على البحر الأسود فقط، بل تخطط أيضا للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور ومضيق داردانيل التركيين. ومن البحر الأبيض المتوسط تريد موسكو أيضا الوصول إلى البحر الأحمر ثم المحيط الهندي والأطلسي، حسب نفس الباحث.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا تحاول منذ سنوات عديدة توسيع تأثيرها وتواجدها فما يسمى بـ"المياه الدافئة". ففي 2015 مثلا، قامت بإطلاق صواريخ من بحر القزوين لتدمير أهداف في سوريا. كما قامت أيضا في الأسابيع الماضية بإعادة إحياء مشروع بناء قاعدة عسكرية مع السودان على امتداد مع البحر الأحمر، في مدينة بورت سودان.
هل سيزود الناتو أوكرانيا بصوراريخ مضادة للسفن الحربية؟
وهذه الاستراتيجية تشبه إلى حد كبير الاستراتيجية التي سطرتها الإمبراطورة كاترين في القرن الـ18 التي شيدت ميناء سيباستبول من أجل الوصول إلى المياه الدافئة. وقال جان سيلفستر موغرونييه في هذا الخصوص: "قامت الإمبراطورة بالاستيلاء على الجهة الشمالية للبحر الأسود وأعطت لها اسم روسيا الجديدة. اليوم فلاديمير بوتين يريد إعادة بناء "روسيا الجديدة" تبدأ حدودها من إقليم دونباس لغاية شبه جزيرة القرم وصولا إلى مولدافيا".
لكن روسيا لا تتواجد بمفردها في البحر الأسود. فهي تتقاسمه مع جورجيا وثلاث دول من الحلف الأطلسي، وهي تركيا وبلغاريا ورومانيا. البحرية التركية التي تملك القدرة على منافسة روسيا بدأت في تقليص أطماع موسكو في البحر الأسود.
ففي 28 فبراير/شباط الماضي على سبيل المثال، منعت أنقرة جميع السفن الحربية الروسية من المرور عبر المضائق التابعة لها (مضيق البوسفور ومضيق داردنيل). فيما قام الحلف الأطلسي بإرسال تعزيزات عسكرية بحرية إلى بلغاريا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا في خطوة لكبح جماح مطامع موسكو المتزايدة.
زيادة على ذلك، واشنطن وحلفاءها يدرسون حاليا إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ مضادة للسفن العسكرية. هذه الأسلحة بإمكانها أن تخفف الخناق الذي فرضته البحرية الروسية على الموانئ المتواجدة في البحر الأسود.
المصدر: فرنس 24