عمار ديوب
جاءت رئيسةَ وفدٍ أميركيٍّ رفيع، وقامت بواجب العزاء بالرئيس حافظ الأسد، وانتحت ربع ساعة ببشار الأسد، و"نصبته" رئيساً. قبل ذلك، قيل إن الرئيس حافظ نُصِبَ رئيساً بعد زيارة إلى بريطانيا، وكان ضابطاً حينها.
يستند الرأي السابق إلى فكرةٍ تؤكد أن الاستراتيجية الأميركية في الستينيات، وقد رأت أن لا إمكانية للوقوف في وجه التيارات القومية واليسارية، فهي تمثل مطالب الشعوب إلّا بتبني ضباط ثوريين، وإيصالهم إلى السلطة، وبذلك يُحيّد الشعب عن السياسة، وتتشكّل الأنظمة الديكتاتورية باسم الاشتراكية، بينما هي "عميلة" للإدارة الأميركية، وضمن ذلك يقال إن جمال عبد الناصر كان مدعوماً من الأميركان... هذا تتفيه للتاريخ ولمشكلاته، وشروط تحوّله، فيُصبح جلّه مؤامراتٍ بيد أميركا أو الماسونية أو الصهيونية وسواه. يمكن لهذا الأمر أن يكون صحيحاً في دولٍ هامشية، ولكن ذلك لا يصح في دولٍ كسورية أو مصر، سيما أن فترة الستينيات كانت مثقلة بالصراع السياسي الداخلي وبالقوى اليسارية والقومية، وباستقلالٍ كبير للشعوب، إثر تشكّل قطبين عالميين.
كانت سورية في العام 2000 مستقرّة، بفعل قمعية الأجهزة الأمنية، وإشرافها الكامل على كل مؤسسات الدولة. ولهذا قال المفكر طيب تيزيني إنها كانت دولة أمنية. كونها كذلك، لا يعني أن الشعب كان ثائراً والدولة في قمعِ مستمرٍ له. لا، المقصد، أن الدولة "خادمةً ومزرعة" للرئيس. وبإشراف الأجهزة تلك، وضمن ذلك، كانت سورية تطوي عقودها، وتتدهور تدريجياً، وتتفارق السلطة عن الشعب، وتسارع ذلك بعد وصول بشار إلى السلطة، وقام بتغيير قوانين الدولة "العامة أو الدولتية" إلى قوانين ليبرالية. المهم هنا أن الأجهزة تلك هي من أشرف على الانتقال السلس للسلطة، والمُنظم على حد قول أولبرايت نفسها. وأمّا الأخيرة، فقد جاءت إلى دولةٍ مصنفةٍ إرهابية، لتتلقى أجوبة دقيقة عن أسئلتها: ما الموقف من عملية السلام، وجاء الرد: على خطى الوالد سنستمر. أي لا تغيير في سياسة الدولة السورية، وبذلك بُورك للرجل. أكثر من ذلك، وأنّها "لقنته" ما سيفعله، وسواه، وإلّا. فهذا ليس من السياسة في شيءٍ على الإطلاق. بعض قادة الأجهزة الأمنية أو العسكرية، وحتى عبد الحليم خدّام، كانوا طامعين بالرئاسة؛ وقيل حينها إن وزير الدفاع الأبدي في النظام السوري، مصطفى طلاس، أشرف مع آخرين على الانتقال السلس، والذي كان يعني إجراء تغييراتٍ كبرى في سن الرئاسة ليصبح 34 عاما، وترفيع الرئيس الجديد رتباً عسكرية غير تسلسلية، وترشيحه من حزب البعث والموافقة الجماعية لمجلس الشعب، وسواه.
إذاً، لم يكن هناك إجماع كامل من قيادات كبرى في الجيش والأمن على تولية بشار الأسد السلطة، وهذا يدفع إلى التساؤل، عن طائفية النظام أو عائليته المطلقة. هناك "شلف" في التحليل السياسي للسلطة في سورية، وأنها طائفية بالكامل، وكذلك أنها أسرية، والانتقال سيكون سلسا وليس فيه مشكلات. لا، فما ذكر أعلاه يوضح ذلك، بينما القول إن النظام استبدادي، وأبوي، صحيح، وغير ذلك هي من صفاته، وليس أكثر، أي أن النظام السوري تضمن، منذ السبعينيات، ممارسات طائفية، وعائلية، ولكنها ليست الأساس فيه. ومن هنا، يمكن النظر إلى "النقلة النوعية" التي أجراها حافظ الأسد في نهاية الستينيات، وأوقف بموجبها كل التوجهات اليسارية والقومية للنظام حينها، واتّجه به نحو التوافق مع البرجوازية الداخلية الكبيرة، ومع دول الخليج حينها، وانفتح على الغرب ولم يبق رهينة القطب السوفييتي، وضمن ذلك، اتجاهه، بشكل نهائي، نحو التفاوض وتحقيق السلام مع إسرائيل، ولا سيما بعد حرب 1973، وأيضاً طرد رفعت الأسد من سورية حينما توهم أنّه قد يكون بديلاً عن أخيه. ثم لم يشذّ بشار الأسد عن ذلك، ولكن سورية كانت تتطلّب سياسات مختلفة في المجالات كافة، وهذا ما أخفق فيه منذ عام 2000 وإلى نهاية 2010 حتى انفجر الوضع في أوائل 2011.
يقول التحليل أعلاه بضرورة التفحّص الدقيق لأحوال أنظمتنا العربية، فإطلاق خصائص معينة، ومن دون ذلك التفحص، أوقع المعارضات والمحللين العرب في أخطاء فادحة، والأسوأ التفسيرات الطائفية أو المؤامراتية، "الرئيس يحكُم، الأقلية تحكُم"، ومن دون التساؤل: وكيف يبسطون سيطرتهم بالضبط؟ إن غياب بنيةٍ صناعيةٍ اقتصاديةٍ ونظام ديمقراطي لا يعني أن رأس السلطة (أو السلطة) هو من يتحكّم بكل مفاصل النظام. لا. اعتمدت السلطة في سورية، قبل عام 2000، وبعده، في بسط سيطرتها وديكتاتوريتها على عوامل عديدة، اقتصادية ودينية وطائفية وعشائرية وبإشرافٍ أمني كامل، على كل هذه المفاصل. وجلبت لها أخطاؤها الكبرى مشكلة الثمانينيات الكبرى. بعد عام 2000، كان للسياسات الاقتصادية الخاطئة الدور الأكبر في تشكيل كتلة بشرية كبرى، متضرّرة منها، وهذا جرى أيضاً في تونس ومصر واليمن وسواها، أي كانت السلطات تتبنّى الانفتاح الأكبر على سياسات العولمة، ولصالح طغمٍ اقتصادية، هي شريكة فيها، وبالضدّ من مصالح الأغلبية الشعبية للشعوب.
هذا بالضبط ما فجّر الأوضاع، أمّا عدم سير الأحداث نحو الانتقال السياسي نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية فله أسباب كثيرة، وتبدأ بغياب الحريات قبل عام 2011، وعدم تشكّل قوى سياسية واعية للشروط التاريخية ولكيفية الانتقال وتغييب الشعوب عقودا عن تشكيل نقابات واتحادات "ديمقراطية" تمثل مصالحها الحقيقية. وهناك ما يتعلق بمجريات الثورة، وكيفية مواجهة النظام لها، وكذلك عدم تفهم المعارضة خصائص الثورات الشعبية ومشكلات المجتمع بعامة، وكيفية العلاقة مع العالم.
لعب الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، دورا مهما في تهيئة الأجواء لوصول بشار الأسد إلى الحكم، وذلك حين استقبله في 1999 بوصفه رئيسا مستقبليا لسورية، ومحاولة إدارته في إحداث الإصلاح في الدولة السورية. فعلت أولبرايت الشيء ذاته. وهناك الشخصيات الرئيسية في السلطة عام 2000، والتي وجدت فيه حلّاً وسطاً لتنافسها على الرئاسة، وقضايا أخرى.
لن نقول إن أولبرايت أخطأت، وكذلك شعر شيراك بعد تمديد رئاسة إميل لحود في لبنان. فهذه دول كبرى، وتعمل من أجل مصالحها، وحاولت تطويع السلطة لسياساتها، وفشلت بكل بساطة. مجدّداً، لم تُنصّب أولبرايت بشار الأسد رئيساً، وليس هناك من عالمٍ خفي بالكامل، ويتعلق بالدوائر الأمنية والماسونية والصهيونية، مسؤولة عن وصول شخصيات معينة إلى السلطة في سورية وسواها، وحتى صدّام حسين قيل إنه "عميل أميركي". إن الوصول إلى السلطة تحكمه عوامل كثيرة، وكذلك سقوطها، ولنلاحظ كيف رَحل جمال عبد الناصر أو صدّام حسين أو حافظ الأسد؛ يشذّ عنهم معمّر القذافي وعلي عبد الله صالح.
إذا كان من خطأ بخصوص الموقف الدولي من قادة الأنظمة العربية فهو في أكاذيبها "الممنهجة" عن حقوق الإنسان والديمقراطية، والتبجّح بالدفاع عن الأخيرة ضد الأنظمة والصمت الفعلي تجاه ممارساتها وإهدار حقوق الشعوب، والأسوأ شن الدول الكبرى الحروب وفرض العقوبات وعقد الصفقات على حساب الشعوب. وهذا ما فعلته إدارة سيدة الدبابيس، مادلين أولبرايت، في العراق في التسعينيات، حيث أكّدت أن مقتل أكثر من مليون عراقي بسبب الحصار كان سياسة صائبة، وهذه هي سياسة الدول العظمى تجاه الأنظمة الديكتاتورية، ومنها نظام بوتين في روسيا قبل غزو أوكرانيا، والآن تفعل الشيء ذاته مع الشعبين، الروسي والأوكراني، بينما السياسة الصائبة تكمن في التهديد المباشر لروسيا بالحرب، كما جرى في كوبا 1962، وفتح باب التفاوض، المباشر أيضاً، بخصوص غزوها الهمجي والمدمر لأوكرانيا.
المصدر: العربي الجديد