عبد الباسط سيدا
لاحتفاء السوريين بالذكرى السنوية لانطلاق ثورتهم، وهي الذكرى الحادية عشرة، وقْع خاص هذا العام، في ضوء الحرب الوحشية التي أعلنها الرئيس الروسي بوتين على الأوكرانيين بغرض إلغاء سيادتهم، وإرغامهم على الالتزام بحدود السياسات التي يرسمها الكرملين، ويفرضها عليهم من خلال حكومةٍ دمية، كما فعل في سورية، فقد كشفت هذه الحرب الظالمة عن تهافت المزاعم الدّعائية التي استخدمتها الماكينة الإعلامية الروسية لإضفاء طابعٍ من المشروعية، بل وحتى من القداسة، على حربها ضد أوكرانيا، وهي المزاعم نفسها التي استخدمت في حرب بوتين على السوريين، حتى بلغ الأمر بالكنيسة الروسية إلى مباركة القوات الروسية التي كانت في طريقها إلى سورية لقتل أهلها، وتدمير مدارسهم ومشافيهم وأسواقهم ومساكنهم، وتهجيرهم، وحماية سلطة بشار الأسد التي كانت في طريقها إلى الانهيار، وهي السلطة الدمية التي استخدمتها روسياً لـ"شرعنة" تدخلها، ووضع اليد على الساحل السوري الذي كان، وما زال، من أركان المشروع الأمبراطوري الروسي بأسمائه وشعاراته المختلفة.
وما التصريحات التي نسمعها هنا وهناك من المسؤولين الغربيين السابقين، وهي تبيّن، بعد فوات الأوان، أنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا اليوم ما كان له أن يحدُث على هذا النحو لولا الصمت الغربي على تدخل القوات الروسية والجرائم التي ارتكبتها تلك القوات في سورية. حتى أنّ بوتين نفسه كان يتفاخر بأنّه يجرّب أسلحته على أجساد السوررين، ويدرّب جنوده في حربه على السوريين. وقد تكاملت جرائم الجيش الروسي في سورية مع جرائم سلطة بشار، خصوصاً المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين، وجرائم السلاح الكيميائي في الغوطة ومناطق سورية عديدة. هذا إلى جانب قصف المدن والبلدات السورية أعواماً ببراميل البارود التي جسّدت الحقد اللامحدود الذي تختزنه تلك السلطة على الشعب السوري الذي كانت "جريمته" الوحيدة أنّه طالب بحياة حرة كريمة آمنة في بلده، فقد وجدت تلك السلطة التي طالما اقتاتت على شعارات المقاومة والممانعة، وزاودت في مختلف المناسبات على دول عربية عديدة، بل وصفت زعماء بعضها بأقذع الألفاظ، في الثورة نهاية أكيدة لتحكّمها المافياوي بمقدّرات البلد ومصائر اهله، فتحرّكت في جميع الاتجاهات بحثاً عن الدعم والمساندة في حربها على السوريين، واستخدمت الإرهابيين، بل صنعتهم وسوّقتهم، من أجل وضع العالم أمام بديلين سيئين فاسدين: الاستبداد أو الإرهاب.
ومع دخول روسيا بصورة علنية مكشوفة لمساندة بشار الأسد في خريف عام 2015، بعد التفاهمات التي كانت بين الرئيسين الأميركي أوباما والروسي بوتين، حصل تبدّل في المواقف، وأعادت الدول، الشقيقة والصديقة منها، النظر في حساباتها وأولوياتها، والتزم كثير منها الصمت، على الرغم من المعرفة العميقة بطبيعة ما كان يجري ومخاطره.
كُتب الكثير عن الثورة السورية، وسيُكتب. وقِيل الكثير عنها، وسيُقال. منهم من تبرّأ منها، ومنهم من اتهمها، ومنهم من ندم على تأييده لها. ومنهم من طالب، ويطالب، السوريين، باسم الواقعية السياسية بالعودة إلى حظيرة العبودية؛ ومنهم من شكّك حتى في مشروعية اسمها. أما المبعوث الأممي، بيدرسن، فهو يحاول، من ناحيته، أن يجد حلاً لـ"النزاع السوري" كما يسميه، لتنتهي بموجبه الأزمة السورية كما يسميها كثيرون، باعتماد سياسة "الخطوة بخطوة"، وكأن السوريين، لا السلطة، هم الذين شرّدوا الملايين، وقتلوا وغيّبوا أكثر من مليون إنسان، ودمّروا بلدهم، وجعلوه مرتعاً للغربان والذئاب ومن الجيوش والمليشيات الأجنبية، ومن المرتزقة والشبّيحة الوافدين والمحليين. هذا مع تيقن المبعوث المعني من استحالة المهمة التي يدّعي أنه يؤديها، وهي الاستحالة التي تيقّن منها أسلافه، خصوصا الأول منهم، كوفي عنان، الذي استقال رغم وزنه ورصيده، وحجم التاييد الدولي والعربي الذي كان يتمتع به.
صحيحٌ أنّ المواقف الدولية وتفاعلاتها وانعكاساتها الإقليمية قد مكّنت سلطة بشار الأسد من الاستمرار، ولكنه استمرار المحتضر الميؤوس منه في غرفة العناية المشدّدة في انتظار لحظة القرار بإيقاف الأجهزة التي تمنحه الحياة... لقد تغيّر السوريون كثيراً على مدى 11 عاماً، فقد تخلصوا من الخوف، وتحررّوا من الأوهام، واكتشفوا أضاليل السلطة وأحابيلها، وتأكدوا من طبيعتها الإجرامية. واليوم لا توجد جهة تستطيع إقناع السوريين والسوريات من جيل مخيمات النزوح واللجوء بإمكانية أن يبدّل بشار الأسد سلوكه، وهو الذي ما زال يخوّن السوريين ويهدّدهم، في حين يعلم الجميع أنّه مجرّد تابع منقاد، يلتزم أوامر من مكّنه من البقاء حفاظاً على مصالحهم، فمن الذي في مقدوره إقناع هذا الجيل بأن من شرّدهم، ودمّر ديارهم، وقتل أعزاءهم، وأحال بلدهم إلى ساحةٍ لمن اتخذ من زعزعة أمن المجتمعات واستقرارها أداة لتحقيق أحلام بناء أمبراطوريات جديدة، سيتحوّل إلى حاكم صالح غيور على وطنه وشعبه؟ من سيقنع عشرات الآلاف من السوريين والسوريات ممن درسوا، أو يتابعون دراساتهم، في مختلف جامعات العالم، حيث يكتسبون آخر المعارف والخبرات، ويتقنون اللغات الأجنبية، ولديهم معرفة وافية بكل جرائم سلطة بشار وممارساتها، بأنّ هذه السلطة ستحقق لهم الكرامة والأمن والتنمية؟
لقد تمكّن حافظ الأسد في وقت من تسويق نفسه الزعيم الوطني الصلب الذي لا يتنازل عن الحقوق الوطنية، الحريص على مصلحة شعبه وبلده، الحريص على التضامن العربي، اعتماداً على شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية، وجيوش من المخبرين في مختلف الميادين وعلى مختلف المستويات. هذا إلى جانب استفادته من حزب البعث والمنظمات الشعبية والنقابات ووسائل الإعلام التي كان يتحكّم بها جميعاً، وحوّلها إلى أدواتٍ لتعزيز سلطته. كما أقام العلاقات، في الوقت ذاته، مع رجال الدين المؤثرين، وتمكّن من كسب ولاء التجار الكبار بفعل مختلف وسائل الترغيب والتهديد. كما كان الأسد الأب واعياً لطبيعة المعادلادت التوازنية الإقليمية والدولية وموجباتها، ففي وقتٍ كان يقيم علاقة متميزة مع إيران، كان يحرص على علاقات طيبة مع دول الخليج، سيما السعودية، وكذلك مع مصر وغيرها من الدول العربية. وحده نظام صدّام حسين كان يمثل العقبة الخطرة، والمنافس اللدود بالنسبة إليه. ولذلك استغلّ غزو الأخير للكويت عام 1990 في ميدان تعزيز علاقاته مع الأميركان، حتى أنّه أرسل قواه للمشاركة في حرب تحرير الكويت عام 1991، مقابل الحصول على رخصةٍ لحسم الأمور في لبنان، بصورة نهائية لصالحه، الأمر الذي أجبر ميشال عون على الخروج من لبنان ليصبح لاجئاً في فرنسا، بعدما كان قد أطلق تصريحات نارية بحق الأسد، من موقعه رئيساً للحكومة العسكرية التي أتت بعد انتهاء مدة رئاسة الرئيس اللبناني الأسبق، أمين الجميل، في سبتمبر/ أيلول 1988.
كلّ هذه العوامل، جعلت من مواجهة حافظ الأسد أو توجيه النقد له من الأمور شبه المستحيلة؛ ومع ذلك قاومه السوريون من عشاق الحرية والحياة الكريمة، ودفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك. لم يكن عدد المعارضين لحكم حافظ الأسد في ذلك الحين كبيراً، لكنّهم أثبتوا هشاشة مزاعم الحكم المعني الذي كان يتفاخر بأنّه حقّق الاستقرار بإنجازاته، بينما كان واقع الحال يؤكد أنّ الاستقرار المزعوم لم يكن سوى استقرارٍ زائف، فرضته الأجهزة القمعية، وهذا ما تبيّن، بكلّ وضوح، في عهد وارثه الابن الذي بدأ حكمه بخطاب مليء بالوعود الخلبية التي كانت مجرّد وسيلة للتمكّن والتحكّم، وهي وعودٌ لم ولن تنفذ.
لقد كشفت الثورة السورية النقاب عن الوجه الحقيقي للسلطة التي أثبتت، وتثبت، باستمرار استعدادها للإقدام على كلّ الجرائم، بغض النظر عن حجمها وطبيعتها بهدف البقاء؛ تماماً مثلما كشفت الجهات الإقليمية والدولية المستفيدة من استمرارية هذه السلطة... عشرات من المعارضين الفعليين الذين كانوا يعيشون عوالمهم الخاصة ضمن الأحزاب السرّية بعيداً عن العالم، بل وعن السوريين أنفسهم، نتيجة الظروف القمعية القاسية التي كانوا يتعرّضون لها، كانوا يؤرّقون سلطة الأسد الأب، فما بالك بملايين السوريين من الشباب المزوّدين بكلّ أنواع المعرفة، بالإضافة إلى الخبرة الهائلة التي اكتسبوها بفعل الثورة، واستطاعوا، في الوقت ذاته، بناء العلاقات المتينة مع سائر السوريين، وتحرّروا من مخاطر كلّ أشكال التعصب، وبات الهم الوطني هو الجامع في ما بينهم جميعاً؟
لدينا اليوم مئات، بل آلاف من الكتّاب والفنانين والروائيين والشعراء والإعلاميين السوريين الشباب الرافضين سلطة آل الأسد التي دمّرت الاجتماع والعمران السوريين، وهؤلاء هم اليوم، وبعد مرور 11 عاماً على انطلاقة الثورة السورية، أشد إصراراً على مقاومة هذه السلطة، فأي قوة في العالم تستطيع إقناعهم بصلاحية المجَرّب الفاسد المفسد؟
المصدر: العربي الجديد