مهند الكاطع
كثير من أبناء الشعب السوري لا يزال يجهل العلاقة المركبة داخل منظومة حزب العمال الكردستاني/التركي الـ PKK، ومستوياتها التنظيمية، والفروع التي أفرزها العمال الكردستاني التي أفرزها في كل من سوريا والعراق وتركيا وإيران، وذلك ضمن تكتيك جديد بعد اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان، كان يهدف إلى حماية عناصره وأعضائه من الملاحقة، فالمسألة باتت أشبه بظهور القاعدة بأسماء مختلفة مثل (داعش، أو النصرة، أو هيئة تحرير الشام ..الخ).
وبالتالي الميليشيات والتنظيمات والإدارات التي أنتجها العمال الكردستاني بعد الثورة في شمال شرقي سوريا مثل: (YPG، YPJ ،الأسايش، قسد، مسد، TEV- DEM /...الخ) هي بالنهاية إطار تنظيمي واحد تندرج تحت مسمى ( KCK- ROJAVA) حيث تشير KCK لمنظومة الكومونات الكردستانية التي يقول أوجلان إنها "كالعمود الفقري في تصيير المجتمع الكردي أمة ديمقراطية"، وتجتمع جميع فروع الكومونات الكردستاني في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا تحت مظلة اتحاد المنظومات الكردستانية KKK ضمن فسلفة أوجلان الجديدة.
تعتبر الكتب المنسوبة لأوجلان والتي قيل إنه ألفها ونظّر من خلالها لنهج جديد لحزب العمال الكردستاني، الركيزة الأساسية للمشاريع والمنطلقات النظرية التي تنتهجها قوى الأمر الواقع في شمال شرقي سوريا اليوم. فمصطلحات مثل ( روجافا، الأمة الديمقراطية، الشعوب الديمقراطية، المجتمع الإيكولوجي) كلها مقتبسة من نظريات عبد الله أوجلان، ففي كتابه: مانيفيستو الحضارة الديمقراطية، القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، يحاول أوجلان إثبات أن "الأمة الديمقراطية" حقيقة وواقع، وأنها نتيجة نضالات ومخاضات الـ PKK من دون أن يكون ذلك بتخطيط مسبق منه، فالعمال الكردستاني كان يرى مفهوم الأمة من زاوية اشتراكية ضمن إيديولوجيته القديمة، و" الأمة الديمقراطية" هي تجسيد للانتصار ضدّ الدولة القوميّة وهي من أهم النتائج التي أسفرت عنها تجربة الحرب الشعبية الثورية التي أدارها PKK.
دعونا نتناول بإيجاز تجربة العمال الكردستاني في سوريا، الذي تسلّم المنطقة من النظام السوري بعد عام 2011. وأطلق عدة مشاريع تحت مختلف المسميات (روجافا، إدارة ذاتيّة، فيدرالية غرب كردستان ..الخ) وسنتحدث هنا عن ما حققته أو جلبته هذه المنظومة لسكان المنطقة من زاوية المتطلبات الأساسية في مناطق تعتبر الأغنى اقتصادياً في سوريا بثرواتها الطبيعية من موارد الطاقة والثروات الزراعية والحيوانية والمائية، والأكثر أماناً واستقراراً بموجب الغطاء الذي وفره الحظر الجوي الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية على شرقي الفرات منذ أوائل سنة 2016.
تُرى ماذا فعلت هذه الميليشيات التي ترفع شعارات الإدارة الذاتية والأمة الديمقراطية والمجتمع الإيكولوجي وحرية المرأة، لتنهض بواقع هذه المناطق المتعثر والتعيس اقتصادياً؟ وهل بلغت أدنى عتبة لآمال وتوقعات حتى من عوّل عليها من أنصار العمال الكردستاني أنفسهم؟ أم أن ذلك كله لم يكن إلا أضغاث أحلام وبروبوغندا لا أساس لها على أرض الواقع؟!
ماذا حققت هذه الميليشيا التي تتلقى أموال الضرائب والجمارك والمحاصيل الزراعية والنفط والمساعدات الخارجية للسكان المحليين؟ ما هي مشاريعها في البنية التحتية؟ ماذا حققت في مجال التعليم؟ كيف تعاملت مع النشاط السياسي خارج منظومتها؟ الجواب ببساطة لا شيء.
التوظيف لدى الإدارة الذاتية
في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب، يرى البعض بأنّ سلطات الأمر الواقع خلقت العديد من الفرص الوظيفية لأبناء المنطقة مقابل رواتب أضعاف ما يعطيه النظام، وهذا "نظرياً" صحيح، بل ويعطي تفسيراً منطقياً لارتفاع نسبة المجندين العرب في صفوف قوات هذه الإدارة حتى تجاوزت عتبة 80% بحسب الإدارة الذاتية نفسها. لكن دعونا نضع بعض النقاط التي توضح بالتحليل حقيقة تلك المزاعم وظروفها والمكاسب الفعلية لها
1 - بعد أن وضعت منظومة العمال الكردستاني جميع الموارد بين يديها، لم يعد أمام السكان المحليين العمل في أي قطاع (وظيفي، تجاري، خدمي) إلا عن طريق أروقة قسد وسماسرتها.
2- الميادين الوظيفية كانت في القطاع العسكري أو الخدمي وكلاهما يضجان بالفوضى والفساد وقلة الخبرة.
3- الإدارة بالأساس تقوم على فكرة سيطرة مسلحة، لذلك تحتل الوظائف المرتبطة بالمجال العسكري النسبة الأعظم من الوظائف التي تشرف عليها قسد وتتوزع بين التطوع في الوحدات القتالية أو الشرطة والأمن أو الوظائف غير المعلنة للمخبرين السريين الذين تم تجنيدهم في مختلف المناطق والقرى وكذلك وظائف الخدمات الصحية والنقل والجمارك المرتبطة بهذه الميليشيا.
4- وظائف القطاع المدني تتوزع بين السلك التعليمي والمحاكم الشكلية التي تم إنشاؤها وكذلك البلديات مع الأخذ بعين الاعتبار بأن معظم الأعمال الخدميّة يتم منحها لمقاولين وحيتان يعملون بالباطن لصالح حزب العمال الكردستاني، كذلك مئات آلاف الأطنان من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية كالحبوب أو القطن التي يتم شراؤها بأبخس الأثمان من الفلاحين عبر شركة تم تأسيسها كبديل عن مؤسسة الحبوب والمثير أن مؤسسها هو رجل بالأساس كانت مهمته وسيط الأموال ونقل الحصص بين الإدارة الذاتية والنظام.
5- معظم الموظفين من دون مؤهلات في قطاعات حيوية مهمة مثل التعليم والمحاكم المختلقة والبلديات.
6- ما يزال الاعتماد الرئيسي هو على المؤسسات التي يديرها النظام مثل هيئات التعليم المعترف بها، الأحوال المدنية، الجوازات، المحاكم، شركة الكهرباء، المطار، حقول النفط والغاز.
7- تستخدم ميليشيات الأمر الواقع جميع المباني والمقرات التابعة للدولة بما في ذلك المدارس لأنشطتها. ولم تنجح هذه الإدارة بإحداث أي أبنية أو تطوير في البنية التحتية، أو إيجاد حلول لمشكلات المياه، أو تطوير محطات معالجة مياه أو شبكات كهرباء جديدة. وبقي الحال على ما هو عليه منذ عام 2011 ويزداد سوءا.
8- استنزاف الموارد الطبيعية مثل النفط دون وجود سياسة ترشيد لإدارة المخزون البترولي، أدى إلى زيادة نسبة الإماهة والتخريب في الطبقة المنتجة للنفط، مما يعني عملياً حرمان الأجيال القادمة من أي موارد نفطية لعدم القدرة على استعادته بعد تدمير الطبقة المنتجة بعكس ما يمكن حدوثه لو كانت هناك سياسات ترشيد في الاستهلاك وخبرات تشغيلية في الحقول النفطية، وهذا النهج الواقع بدأته عصابة النظام وتابعته بطريقة أسوأ عصابات العمال الكردستاني.
- تفرض ميليشيا الأمر الواقع مناهج ركيكة وخطيرة بالوقت نفسه على المدارس التي تقدر بأكثر من 90% من إجمالي المدارس في مناطق نفوذها، فضلاً عن أنها مناهج تروّج للعنف، وتسوّق لميليشياتها التابعة للعمال الكردستاني والانتساب إليها عبر عرض صور لمقاتلين شبان من مناطق متفرقة من سوريا وتصويرهم كأبطال وترسيخ صورة نمطية ذهنية وبصرية عن هؤلاء المقاتلين في أذهان الأطفال منذ المرحلة الابتدائية المبكرة.
- يرسل المسؤولون في مناطق قسد أبناءهم للدراسة في المدارس القليلة التي ما تزال تقوم بتدريس مناهج النظام وتمنح شهادات تؤهلهم للدخول إلى الجامعات السورية، في الوقت الذي يتم تعمّد تجهيل السواد الأعظم من أبناء المنطقة بشكل ممنهج وبحرفية عالية، إذ إنه فضلاً عن ركاكة المنهاج وعدم اتباع أي أسلوب علمي يفيد الطلاب، فإنّ بعض المصادر المطلعة تشير إلى أن أكثر من 95%من مدرسي الإدارة الذاتية لا يحملون شهادات تؤهلهم للتدريس، وأنه يتم قبول وثائق علمية مزورة بشكل فاضح دون أي تدقيق أو مراجعة، بل إن الجواب الأول على هذه المسألة من قبل مسؤولي الإدارة بأنهم لا يهتمون "للشهادة"!!! كيف لا تعني لكم الشهادة شيئاً وأنتم ستخرجون أجيالاً؟
وغالباً ما يتم تبرير ذلك بأنّ المدرسين هم طلاب جامعات لم يتموا تعليمهم نظراً لواقع الحال، والمفاجأة أن معظمهم لم يحصل على الشهادة الثانوية أصلاً، ولا تخلوا مدرسة واحدة من أمثلة على ذلك.
- المحتوى التعليمي دون محتوى علمي، ولا يؤسس لمعرفة أو تعليم، بل محتوى موجه ومؤدلج وبعيد عن قيم وهوية السكان، وهناك تشويه متعمد كذلك في مختلف العلوم الإنسانية من تاريخ وجغرافية، مع استبعاد للمادة الدينية، فمثلاً يجري الترويج عبر هذه المناهج للزردشتية كديانة قديمة في سوريا "وهي ليست كذلك"، وأنّ الرسول محمد مجرد رجل عظيم مثل سقراط والنبي زردشت، وغيرها من الرسائل المشوهة.
أوجه الفساد في المؤسسات المدنية والخدمية الأخرى لا حصر لها، وحوادث سرقة الأموال من قبل مسؤولين وكوادر عسكرية للأموال والهرب خارج المنطقة هو أمر متكرر الحدوث، ومن أبرز القطاعات في الفساد هي البلديات، التي باتت بمنزلة مراكز لتبييض الأموال، خاصة تلك التي تتبرع بها جمعيات ومؤسسات أجنبية، تحت بند "إعادة الإعمار" ليتم اختلاس عشرات أضعاف المبلغ الذي يتم صرفه فعلياً على مشاريع شكلية، وجعلها موارد أساسية واحتياطية لحزب العمال الكردستاني.
الطرق في أسوأ أحوالها، والأسواق خالية من أي رقابة لما يتم إدخاله من مواد فاسدة، ورفع للأسعار، واستغلال للأزمات، فضلاً عن احتكار الأشخاص الذين يعملون لصالح الإدارة الذاتية للسلع الأساسية.
لا داعي للتذكير مجدداً بما تعانيه المنطقة من شح في المياه الصالحة للشرب وخاصة في محافظة الحسكة، كذلك الخبز الذي بات يصنع من الدقيق المخلوط من الذرة والقمح والشوفان والنخالة وحتى الرمل، طبعاً وشح الحنطة يعود لحرائق مفتعلة لمحاصيل 2020، ونهب وتصدير محاصيل 2021، وكانت بالتالي سنة 2022 الأكثر سوءاً منذ 10 سنوات، حتى وصل الحال إلى نفوق أعداد كبيرة من الثروة الحيوانية بسبب عدم هطول الأمطار وعدم توافر أي مخزون من العلف، وتتعمد الإدارة الذاتية سرقة مخصصات الفلاحين من الديزل اليوم، لبيعها في مناطق أخرى بما في ذلك مناطق الريف الشمالي المحرر ومناطق النظام لقاء أضعاف سعرها، وكل ذلك سيكون على حساب محصول هذا العام.
الميدان العسكري لا يقل فوضى عن الميدان المدني في هذه الإدارة، فالفوضى وتعاطي وترويج المخدرات تغزو القطاع العسكري، يتم استخدام هذه الأساليب مع قاصرين وقاصرات تم تجنيدهم قسراً، لتستطيع عقولهم تقبل واقعهم العسكري تحت تأثير الإدمان، وهذا ما يجعل الواقع بين الشباب ومستقبلهم الأكثر سوءًا من أي شيء آخر. صحيح أن نسبة العمال الكردستاني الذي يقود ويتحكم بالمفاصل العسكرية والأمنية يشكل ربما 5% من إجمالي عدد قسد اليوم.
المصدر: تلفزيون سوريا