دلال البزري
لماذا اجتاح بوتين أوكرانيا؟ لأنّ في وسعه ذلك.
داخلياً لأنّه وحده يأخذ القرار. أزاح عن دربه كلّ من لا يبْصم على قراراته. سمّم معارضي سياسته. اغتال بعضهم واعتقل الآخر. أحكم على إعلامه بالصمت. وعلى شعبه، بالتالي. ولا عجب أنّه يعتقل الآن من يتظاهر ضد هذا الاجتياح. أي أنّ لا أحد من محكوميه وشركائه يزعجه في مغامرته من أجل استعادة مجد روسيا القيصرية - السوفييتية. لكنّ راحة بوتين ليست محصورة في بيته. ثمّة راحة عالمية، خارجية، توفّرت له: الشيشان وجورجيا، ضربَهما وقتلَ استقلالهما من المهْد، ومعه عشرات الآلاف من مواطني الجمهوريتين. قيل وقتها "جمهوريات سوفييتية سابقة" لا شأن لنا بها... وبعد ذلك، كانت الثورة الديمقراطية في أوكرانيا (ثورة "الميدان" 2014)، فاجتياح الجيش الروسي شبه جزيرة القرم، وابتداع "شريط حدودي" في شرق البلاد، إقليم دونباس، زرعَ فيها مليشيات، وقتالاً متواصلاً أوقع آلاف القتلى... واهتز وقتها "المجتمع الدولي" إعلامياً، وجدانياً، وسارت التظاهرات المستنكِرة. بعد ذلك، حلّ ما يشبه النسيان.
ثم كانت سوريا البعيدة. وقتها، عندما استخدم بشار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه. وقف أوباما، ورسمَ "خطوطاً حمراء"، قال "ممنوع تجاوزها". قال إنّ الأسد "ارتكب جريمة ضد الإنسانية" وإنّه "يذكّر بعمل النازية". فهدّد بتوجيه "ضربة محدودة لشلّ قدرات النظام السوري". ونصبَ صواريخ توماهوك على سفن حربية تُبْحر في المتوسط. عابَ عليه بوتين هذا "الجنون" واقترح "التسوية" التي نعرفها: يتراجع أوباما عن الضربة، ويسلِّم الأسد سلاحه الكيميائي. بعد عامين فقط على هذه المسمّاة "تسوية" كان بوتين يطلب من "مجلس الاتحاد" الروسي، المطْواع، أن "يستخدم القوات المسلحة في الخارج". أن "يدعم الجيش السوري فقط في كفاحه ضد التنظيمات الإرهابية تحديداً". وأنّه سوف يقوم بعمليات "جوية فحسب" لا "عمليات برّية". فدخلت هذه القوات الجوية في منافسةٍ حاميةٍ مع البراميل المتفجرة لقتل المدنيين السوريين الهاربين من جرائم بشار الأسد. واستقرّت الثكنات العسكرية الروسية في قلب سورية، على شاطئها وفي بحرها.
هنا أيضاً لم يتدخل أحد أمام مشهد سحق السوريين بسلاح، تمرّن بوتين على جديده "بنجاح باهر" حسب تعبيره. وهنا أيضاً، في الغزو الروسي لسورية، تحرّك "المجتمع الدولي" كأنّه يرفع العتَب. أما عن دخول ثلاثة آلاف جندي الى جمهورية كازاخستان لمساعدة واليها، صديق بوتين، ضد حركة شعبية عمّت البلاد احتجاجاً على رفع سعر الغاز، فبالكاد سمع بها العالم... حصل ذلك منذ بضعة أشهر فقط، لكنّ العملية كانت سريعة وناجحة.
وهذا كله ليس كافياً. كان على بوتين أن يكذب أيضاً لكي يُلبس غزوه أوكرانيا لباس "الحق". ثلاث أكاذيب، كانت الهيكل "الاستراتيجي" الذي بنى عليه خطاب اجتياحه هذا البلد. الكذبة الأولى قديمة بائتة، مثل سنارة صيد للآذان التي يدغدغها القول المأثور "لا إمبريالية إلّا الإمبريالية الأميركية" وقوام هذه الكذبة أنّ أوكرانيا تريد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، "الشيطاني". والحقيقة أنّ أوكرانيا، ومعها أوروبا، تحْدس بمعارضة بوتين الشرسة لهذا الانضمام، وتمْتَنع عنه... وتفهم أنّ حجة "أوكرانيا هي الخاصرة الرخوة لروسيا" هي ابنة الكذبة أعلاه... (من يتذكّر "الخاصرة الرخوة" اللبنانية على الحدود الغربية لسورية؟).
الكذبتان الأخريان أقل فداحة. تبدوان كأنّهما حُشرتا في آخر لحظة. أولاهما: امتلاك أوكرانيا السلاح النووي. كذبة ساذجة. والحقيقة أنّ أوكرانيا جرّدت من سلاحها النووي عام 1994، بتوقيعها على "مذكرة بودابست" التي تضمن التزام الروس أمن أوكرانيا وسلامة أراضيها، مقابل سحب الرؤوس النووية التي زرعها السوفييت هناك. "مذكرة بودابست" عاد وخرَقها بوتين نفسه باجتياحه شبه جزيرة القرم، واستنزافه إقليم الدونباس شرقي أوكرانيا.
الثانية كذبة أكثر ركاكة، تشبه كذبات جبران باسيل: أنّ بوتين يجتاح أوكرانيا، لأنّ الأوكرانيين يرتكبون عمليات إبادة بحق أهالي إقليم الدونباس بأمر من حكومتهم. هدف هذا الغزو، يقول بوتين: "حماية الأشخاص الذين يتعرّضون للتخويف والإبادة على يد نظام كييف". ولا حاجة إلى تأكيد العكس تماماً. لا تنقص الشواهد الدقيقة على ذلك.
ثمّة دافع امبراطوري، استعماري، وراء ذلك. وثمّة "هيكل فكري" يسنده ويرسم أطره. إنّه بسيط وله تاريخ. وبوتين باشر به منذ توليه السلطة، أو قبيلها، عندما لم يكن "سوى" رئيس للوزراء، افتتح عهده "القوي" بمجزرة بحق الشيشان .. ومحور الهيكل فكرة استعادة المجدَين القيصري -السوفييتي، مسْقيّاً بينابيع مخابراتية دفاقة: إخضاع الشعوب المجاورة، وتوسيع هذا الجوار كلما تقدّمت فرصته. ويستلزم هذا "الكفاح" نوعية معينة من المعايير: التسلّط، السرّية، الذكورة، عبادة القوة، الهرمية الشديدة .. إلخ. وبطبيعة الحال، كراهية الغرب، نموذجه السياسي، الاجتماعي الذي يصفه بـ"المُخَنّث": ديمقراطيته تحديداً، والتي منها تتفرّع الكراهيات إلى صنوف التحقير لكلّ ظاهرة غربية هي ابنة الديمقراطية بامتياز. أنظر إلى الازدراء الذي يلاقي فيه بوتين رؤساء الدول الديمقراطية. يتعالى بجسمه المتمرّن على المصارعة بأنّه أقوى منهم، لا يحتاج "مشروعيتهم".
ضعف الديمقراطية ليس قادماً من روسيا وحسب. إنما داخل الديمقراطيات الغربية نفسها. تسلّل قبل دونالد ترامب.. وإحداثياته، وإعجابه بالدكتاتوريين. وكان في هذا الوقت ينمو الوحش المعادي للديمقراطية بذيوع أحزاب أوروبية، بين يمين ويسار، متطرّفة وشعبوية، ترفض المؤسسات والاقتراع والقانون والدولة. وبوتين يسرّه هذا، يجذب إليه قطعاً من الغرب المريض. فهو، من بين صياغاته السحيقة والقريبة، معادٍ بشدّة لأية آلية ديمقراطية تحصل. في البعيد، كما في سورية، وفي القريب، كما في أوكرانيا. من التجربتين السورية والأوكرانية، والتجارب الأخرى الأقل بروزاً، بوتين يقتل الشعب الذي يريد الحرية. مرّة بأن ينقضّ عليه وعلى رئيسه المنتخَب ومؤسساته الديمقراطية الناشئة، يحرقه، ضد إرادة حكومته الشرعية. ومرّة أخرى، بالعكس: وفي بلاد أخرى، بأن يحمي رئيساً يقتل شعبه، لأنّ هذا الأخير تجرّأ عليه وطالب بحريته. أي أنّ بوتين يعترف بهوية الذين يؤبّدون الإستبداد، وينْكر هوية الذين يناهضونه. مثل صدام حسين الذي اجتاح الكويت، بأريحية الذين يعتبرونها "محافظة عراقية". وإسرائيل المحتلة أرض فلسطين التي تنْكر وجود الشعب الفلسطيني، والفرنسيون يقاتلون ثورة التحرير الجزائرية تحت شعار أنّ الجزائر فرنسية .. إلخ.
تصدُّع العالم أعطى لبوتين ما في وسعه ليجتاح أوكرانيا. إنّه نذير شؤم للغرب، للديمقراطية، للسلام، للتوازن العالمي، أو لعدمه... في كلّ الأحوال، إنّه لن يأتي على البشرية إلا بالموت والجوع واللجوء. أوروبا هي الخط الأول في هذه الحرب. تقع على عاتقها حماية نفسها من غول الاستبداد الشرقي الزاحف على أبوابها. وعندما تدافع أوروبا عن ديمقراطيتها، فهي تحمي نفسها وتحمينا من مستقبل يضيع فيه كلّ إرث الأنوار.
المصدر: تلفزيون سوريا