سمير صالحة
الحرب في أوكرانيا هي حلقة من مواجهة روسية – غربية بقرار أميركي بدأت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وولادة اتفاقية بيلوفيزا التي أعلنت قيام "رابطة الدول المستقلة" عام 1991 لتفتح الطريق أمام صراع سياسي أمني اقتصادي على أكثر من جبهة وفي أكثر من مكان بين الطرفين.
هناك انتشار غربي استراتيجي في عمق مناطق النفوذ الروسي منذ مطلع التسعينيات إما عبر ضم الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى حلف الأطلسي أو قبولها عضوا في الاتحاد الأوروبي أو في الجناحين معا، وهذا يكفي موسكو للرد بالبذلة العسكرية التي ارتدتها منذ مطلع الألفين ولم تخلعها حتى اليوم.
ألحقت أوروبا ضربة موجعة بالنفوذ الروسي عام 2004 عندما ضمت العديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى الاتحاد الأوروبي وفتحت الأبواب أمام قبول غالبيتها داخل المنظومة الأطلسية. ردت موسكو عام 2008 في جورجيا معلنة بداية شكل جديد من الصراع يعود فيه الاحتكام إلى القوة العسكرية المباشرة. المواجهة الأخرى كانت عام 2013 مع قرار الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش تجميد مشروع الالتحاق بالغرب واندلاع موجات واسعة من الاحتجاجات والعنف في المدن الأوكرانية أدت إلى هروبه باتجاه موسكو وعودة أوكرانيا إلى الحضن الغربي مجددا. ثم بالرد الروسي عام 2014 من خلال التدخل العسكري لفصل إقليم دومباس والقرم عن الوطن الأم أوكرانيا. بعدها جاء الدور على "التمرد" الأذري في قره باغ المدعوم تركيا، ورفض إصرار موسكو على تجميد الأزمة لإبقائها ورقة ضغط ضد الأطراف المحلية والإقليمية هناك. ثم إفشال موسكو لحركة الشارع في كازاخستان قبل أسابيع ونجاحها في لملمة الأمور بتدخلها العسكري المباشر لقطع الطريق على أي تحرك سياسي غربي.
رسائل الكرملين الأخيرة باتجاه الغرب وكييف لم تؤخذ على محمل الجد حيث قررت أوروبا تسريع ملف عضوية أوكرانيا وقررت أميركا تفعيل موضوع عضويتها في حلف شمال الأطلسي. سارع بوتين لإعطاء أوامر الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، لكنه وجد القرار غير كاف ومقنع لأميركا وأوروبا أنه جاد في منع التحاق أوكرانيا بالمشروع الغربي فكان ما كان حتى الآن.
يقول لنا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن أهداف روسيا من خلال هذه العملية العسكرية ضد أوكرانيا أعلنها الرئيس بوتين معتمدا على التاريخ والجغرافيا والقوة العسكرية الروسية والأمثلة السابقة ليكون الدليل أكبر برهان على جدية موسكو. وينهي لافروف كلامه بالقول إذا ما تخلت أوكرانيا عن سلاح المقاومة فنحن على استعداد لمحاورتها. موسكو تلعب ورقة القانون الدولي والمادة 51 من الجزء السابع في ميثاق الأمم المتحدة "حق الدفاع المشروع عن النفس" وهي تتوغل في الأراضي الأوكرانية، لكن أوكرانيا عاجزة عن طلب المساعدة العسكرية من قبل الدول الغربية للدفاع عن نفسها وهو حق يمنحه لها القانون الدولي أيضا. تماما كما كانت ذريعة النظام في دمشق قبل 7 سنوات عندما قرر دعوة روسيا لإنقاذه فاستجابت لكن أميركا تقول لكييف أنتم لستم في الناتو!
كيف كان شعورنا عندما أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا؟
كسياسيين وعسكريين وقياديين ومواطنين عاديين في العالم؟ بوتين لا يتكلم كثيرا يفعل فقط ويترك الكلام لوزير خارجيته لافروف ولمساعديه في أغلب الأحيان. لكنه في الملف الأوكراني تكلم أكثر من مرة في مسائل التاريخ والجعرافيا والإهانات والخيانات وقرار روسيا استرداد ما كان لها قبل عقود وتدمير من سيقف في طريقها. لا دبلوماسية ولا سياسة ولا قانوناً دولياً ولا اعتبار للتوازنات والمعادلات والسيناريوهات. "روسيا لا تخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية" هي مجرد "عملية عسكرية خاصة لحماية دونباس". دونباس أرض أوكرانية حسب الخرائط الدولية والأممية والقوات الروسية تجري فيها عملية عسكرية بقرار من الكرملين بينما المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات القانونية وبايدن يتابعون وسط حالة من الذهول.
أطفالنا لم يذهبوا إلى المدارس كثيرا في العامين الأخيرين بسبب الوباء. هم ربما لا يعرفون تماما معنى الكلمة كما تعرفها القواميس. الذهول حالة عدم التعامل مع وضعية حرجة صعبة نتيجة فقدان الوعي والإدراك حيث إن المريض لا يستجيب لأي من المنبهات إلا بعض المنبهات الأساسية مثل الألم. في حالة الذهول يكون الشخص غير قادر على الكلام لكن يظهر عليه أنه واع وعيناه مفتوحتان ويتتبع الأشياء المحيطة به. لتقريب الصورة أكثر حول المصطلح ننصح إلى جانب رصد تصريحات بوتين، مشاهدة المؤتمر الصحفي للرئيس الأميركي جو بايدن مساء الخميس المنصرم وهو يتحدث عن التطورات في أوكرانيا.
أزمة أوكرانيا ليست الأولى من نوعها في العالم. كل من سنحت له الفرصة ونجح في استغلال الظروف والأجواء فعل ما يدور في رأسه غير عابئ بما سيقال أو بردود الفعل. لكن بوتين كان أكثر وضوحا لم يكتف بالحديث عن حقوق بلاده التاريخية في أوكرانيا ودول الجوار التي انسلخت عن روسيا السوفياتية قبل 3 عقود بل هددنا مباشرة "أياً كان مَن سيحاول الوقوف في وجه إجراءاتنا، فضلاً عن تشكيل خطر على دولتنا وشعبنا، يجب عليه أن يعلم أن ردّ روسيا سيكون فورياً، وسيؤدي إلى نتائج لم تواجهوها قطّ في تاريخكم".
عندما كان رؤساء الولايات المتحدة يعلنون انطلاق عمليات عسكرية في مكان ما، كانوا يتبرعون بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة وإسقاط الدكتاتوريين، لكن بوتين الذي حصل على تفهم ودعم الصين والنظام في دمشق والحلفاء الجدد من حوثيي اليمن توج ما عنده بعبارة "نحن مستعدون لأي تطورات، وقد اتُّخِذت القرارات المطلوبة كافة في هذا الخصوص، وآمل أن يُسمع كلامي". الكرة في ملعبنا الآن لإعطاء بوتين ما يريد ولتنفيذ التعليمات والالتزام بها وعدم عرقلتها أو التصدي لها والتجربة أكبر برهان. في سوريا مثلا.
حرك الرئيس الروسي قواته وهو يستفيد من التحولات السياسية والاقتصادية والتشرذم الغربي وإصرار الأطلسي على عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا بسبب أوكرانيا والاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية والمالية التي يقول إنها ستكون رادعة، لكن حرب المواقع لن تتوقف حتما مع دخول القوات الروسية إلى كييف أو حتى السيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية.
أميركا تستفيد حتما من كل هذه التطورات: أعادت توحيد الغرب خلفها وأنعشت الأطلسي مجددا بعد الاحتكاكات الأخيرة بداخله وألزمت أوروبا التي كان ماكرون يشجع على انفصالها العسكري عن الأطلسي بعدم الابتعاد كثيرا. ونجحت في بيع المزيد من السلاح إلى دول أوروبا الشرقية التي تقف خلفها في منطقة حوض البحر الأسود وهذا يكفيها حتى الآن، حتى ولو تعرض الرئيس الأميركي جو بايدن لانتقادات لاذعة بسبب عدم دفاعه العسكري عن أوكرانيا.
المرحلة القادمة ستكون أصعب على الجميع في منطقة حوض البحر الأسود وكل خطوط التماس الروسية – الغربية هناك. لكن المواجهات ستنتقل سريعا وبشكل مختلف عما هي عليه اليوم إلى كل الدوائر المجاورة في شرق المتوسط والشرق الأوسط وجنوب أسيا. الكرة ستكون في ملعب واشنطن وموسكو كالعادة وتبادل الهدايا سيكون مناصفة بينهما على حساب الكثيرين. ويبقى السؤال الذي ينتظر الإجابة أين وكيف ستتشكل خارطة التفاهمات الإقليمية الجديدة وسط عملية التطويع والمبايعة الأميركية الروسية ورسم خارطة تقاسم نفوذ لم يكتمل شكلها بعد؟
اللعب مع الكبار!
أغضب اعتراض الأرنب بسبب مشكلة طول أذنيه ملك الغابة ووزيره الثعلب لرفضه تنفيذ فرمان إلزام جميع الحيوانات اعتمار القبعة. بعد شهر كامل من الضرب اليومي بسبب تمرد الأرنب على ارتداء القبعة، قرر الثعلب تغيير وسيلة تسلية الملك مع الأبيض الصغير. طلب إليه أن يذهب ويشتري علبة من السجائر ويعود. تنبه الأرنب إلى الفخ الجديد فعاد مهرولا يسأل وهو يقول في داخله نجوت من الضرب هذه المرة: هل سجائر الملك بفيلتر أم بدون فيلتر؟ غضب الثعلب لتذاكي الأرنب وانهال عليه ضربا وهو يسأله مجددا أين القبعة!
المصدر: تلفزيون سوريا