غازي دحمان
تعد نظرية الألعاب في العلاقات الدولية أكثر النظريات قدرةً على تحليل سلوك اللاعبين في الأزمات الدولية، لقدرتها على وصف الكيفية التي يتصرّف بها اللاعبون "العقلانيون" في المواقف الأزموية والخيارات الرشيدة التي يتخذونها لتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب، وتجنب الخسائر أو التقليل منها قدر الإمكان.
وقد أخضعت معظم التحليلات الغربية الأزمة الأوكرانية لهذه النظرية، ويبدو ذلك ملاحظاً في تحليلات "فورين أفيرز" و"المجلس الأطلنطي"، وحتى صحف من نوع "نيويورك تايمز" فجميع هذه الجهات رأت أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يضع الغرب في اختبارات متتالية جرى استيحاؤها من متن نظرية الألعاب في العلاقات الدولية، خصوصاً ما تتضمنه من مناورات ومساومات ونقلات، يقوم بها بوتين بهدف التأثير في سلوك الغرب، ودفعه إلى الاستجابة لطلباته، المعلنة والسرية.
ولعلّ المفارقة التي نبهت لها أغلب تلك التحليلات تمثلت بأنّ نظرية الألعاب هي صناعة غربية بحتة، وأنّ علماء المدرسة السلوكية الأميركية هم من طوّروها ووضعوا فرضياتها الأساسية، بدليل أنّ أهم استراتيجيي الغرب في العصر الحديث، هنري كيسنجر، صنع نجاحه الدبلوماسي، وحقق لأميركا فائض قوّة دبلوماسية، بالاتكاء على هذه النظرية. واليوم، يبدو بوتين خير من يطبّقها، وبفضلها يتلاعب بالغرب، في ظلّ تراجع التفكير الاستراتيجي إلى أبعد الحدود، وتجمّد الخيال الاستراتيجي الغربي.
استطاع بوتين، بالفعل، خلال الشهور الماضية، إرباك الغرب، ووضعه في موقف محرج إلى حد السخرية، فقد استنزف القدرات الدبلوماسية والاستخبارية لدول الغرب التي بذلت جهوداً هائلة للتنبؤ بخطوة موسكو التالية في هذا الصراع، كي يتسنّى البناء على الشيء مقتضاه. وذهب صنّاع القرار إلى بناء سيناريوهات عديدة لما سيقوم به بوتين، وتقدير الخيارات المتاحة لمواجهة هذه السيناريوهات، لكن بما أنّ سلوك بوتين السياسي، الذي اكتسبه من خبرته الاستخباراتية، يصعب توقع مخرجاته، فقد شكّل الأمر إرهاقاً فعلياً لدوائر صنع القرار الغربية، وقد يضعها ذلك على طريق تقديم التنازلات، حتى قبل أن يطلق بوتين رصاصة واحدة تجاه الغرب.
لكن، هل صحيحٌ أنّ بوتين في إدارته الأزمة الاوكرانية يتبع بالفعل روشيتة الفكر الغربي، بمعنى أنّه يطبّق نظرية الألعاب، ذات المصدر الغربي؟ الأرجح أنّ منابر الفكر في أميركا وأوروبا هي التي ألبست بوتين عنوةً هذه التهمة، والغاية من وراء ذلك التمكّن من وضع سلوكه في قوالب أو نمذجته، بدليل أنّها تصوّره لاعباً عقلانياً، سيخضع لمعطيات البيئة الدولية، وسيختار ما هو أقل ضرراً لروسيا!
هذه فرضيات مضلّلة، بدليل أنّ أميركا نفسها لم تجعلها محدّداً لها في ممارسة لم يمضِ عليها وقت طويل، حرب العراق، فقد اعتقد الرئيس العراقي، صدّام حسين، أنّ واشنطن لن تغزو العراق بناءً على تقديراتٍ قدّمها له وزير خارجيته، طارق عزيز، تقوم على أنّ مجلس الأمن لن يوافق على قرار الغزو الأميركي، لوجود روسيا والصين صديقي العراق فيه، ولأنّ القيادة الأميركية تدرك أنّ إسقاط النظام العراقي سيخلّ بتوازنات المنطقة لصالح إيران، ذات النظام الثيوقراطي، وهذا كلام منطقي يتسق مع العقلانية، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟
في الواقع، تعطي حسابات الطرفين، والرهانات المبنية على أساسها، صورة أوضح عن طبيعة إدارتهما الأزمة، فحسابات الغرب ترتكز على الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية في روسيا، والتي ستشكّل كابحاً لبوتين في اتخاذ قرار الحرب على أوكرانيا، فروسيا المتراجعة ديموغرافياً لن تضحّي بأعداد كبيرة من شبابها في حرب مع طرفٍ ليس سهلاً بالضرورة في ظلّ صحوة الروح القومية الأوكرانية والاستعداد لمواجهة العدوان الروسي، كما أنّ العواقب الاقتصادية ستفوق قدرة بوتين على الاحتمال في وجود شكوى شعبية من التردّي الاقتصادي الحاصل في البلاد.
بيد أنّ لبوتين حسابات معاكسة تماماً، إذ تذهب تقديرات جنرلاته إلى أنّ الحرب ستكون سهلة، ولن تستغرق وقتاً طويلاً، نظراً إلى فارق القوّة الساحق بين الطرفين، وأنّ كثافة النيران التي ستستخدمها القوات الروسية ستؤدّي، على الفور، إلى تفكيك هياكل الجيش الأوكراني، وتقطيع أوصاله، ولن تتاح له فرصة لالتقاط الأنفاس، حتى تكون القوات الروسية قد حققت أهدافها.
أما اقتصادياً، فقد عزّزت روسيا احتياطياتها الدولية إلى مستوياتٍ قياسية في السنوات الأخيرة، وهي حالياً في وضع جيد لمواجهة عاصفة عقوباتٍ شديدة. وقد يعتبر بوتين الألم الاقتصادي للعقوبات الغربية ثمناً يستحقّ دفعه مقابل المكاسب الجيوسياسية الحاسمة التي يتصوّرها من حملة أوكرانية ناجحة. وبالنسبة له، يعتقد أنّه ما لم يتمكّن من عكس المسار الأوروبي الأطلسي الحالي لأوكرانيا، فإنّه سيضع كلّ ما صنعه على مدار سنواتٍ من النضال لجعل روسيا لاعباً دولياً محترماً، في مهب الريح.
من يلعب مع من؟ يبدو أنّ اعتبار بوتين الطرف الممسك بخيوط اللعبة ومحرّكها الأساسي قراءة متسرّعة، إذ ربما قد يكون بوتين وجد نفسه منخرطاً في لعبةٍ لم يرد إيصالها إلى هذه الحدود، بدليل أنّ الغرب بات يضرب مواعيد لحربه على أوكرانيا، ويطلق الشائعات عن احتمال فبركة روسيا ذرائع للهجوم على أوكرانيا، حتى أنّ رئيس أوكرانيا نفسه انتقد حملة التهويل بالغزو الروسي!
من الواضح أن ثمّة دوائر غربية، خصوصاً في واشنطن ولندن، تريد إيقاع بوتين في الفخ الأوكراني، وقد هيأت الأرضية المناسبة لذلك، إذ تشتغل مراكز التفكير الاستراتيجي على صناعة بيئة أوكرانية مدمّرة للقدرات الروسية، إذ يجري الحديث عن إعادة هيكلة الجيش الأوكراني إلى وحدات صغيرة، شبيهةٍ ببنية حركات المقاومة، كما أنّ كلّ الأسلحة التي جرى ضخّها، في المدّة الأخيرة، تأتي في هذا السياق. وتجري دراسة نقاط ضعف القوّة الروسية وكيفية قطع طرق الإمداد وتحقيق أكبر قدر من الخسائر في الجيش الروسي، أي، باختصار، إعادة استنساخ أفغانستان ثانية، والهدف إخراج روسيا من دائرة الفعالية في أوروبا، وإضعافها بوصفها رديفاً محتملاً للصين في صراعها القادم مع واشنطن.
المصدر: صحيفة "العربي الجديد"