يحيى العريضي
"النيويورك تايمز" صحيفة أميركية عالمية لا تنطق عن عبث؛ تقتبسها ملايين المصادر؛ هي ترجمة تكاد تكون حرفية لموقف وجوهر السياسة الأميركية؛ تقول بالأمس إن "بوتين إما زعيم ماكر، أو قائد متهور". ذلك يأتي في سياق ما يحدث على جبهة أوكرانيا. يأتي قولها ترجمة لرفع أميركا عقيرتها حول غزو روسي محتَّم لأوكرانيا، مُحَدِّدةً حتى توقيته؛ واضعة بوتين ضمن ممرين إجباريين أحلاهما مرُّ: حرب تنهي طموحاته، أو انكفاء ينهي مصداقيته.
بوتين من جانبه، يستشعر الممرين الأمرّين، فيبدأ البحث عن ثالث عبر تنشيط "سياسة البهلوانية" التي بَرَعَ بنهجها. فبعد استعدادات وحشود حربية معلنة ومرصودة بالأقمار الصناعية في أوكرانيا، تعلن روسيا فجأة أن الأوامر صدرت لمئة وخمسين ألف جندي وآلياتهم بالعودة إلى ثكناتهم.
وهنا خرجت أبواق الإعلام "الغوبلزية" الأسدية- الإيرانية- الروسية، مدعّمةً ببعض الإعلام "الرصين" لتقول إن أميركا عرضت على بوتين الخروج من سوريا، مقابل التصرف بأوكرانيا، ولكنه رفض؛ وما زيارة وزير دفاعه "شويجو" إلى قاعدة حميميم، والمناورات "الروسية – السورية" المشتركة إلا دليل على خياره الثالث.
كان إعلان "انسحاب القوات الروسية" مصحوباً بفيديوهات أنتجها إعلام بوتين زاعماً أنها لدبابات ومعدات ثقيلة تغادر المناطق الحدودية؛ ليتبيّن أن تلك الصور قديمة؛ والدليل على ذلك صور أقمار صناعية حديثة تظهر استمرار تحشيد القوات على الحدود؛ وتصاعد القصف شرق أوكرانيا؛ وتواصل التدريبات في بيلاروسيا. ومن هنا أتت تصريحات "بايدن" للصحافة بالأمس لتقول: "خطر الغزو لا يزال مرتفعاً للغاية، والروس منخرطون بعملية مخادعة، ليكون عندهم عذر للدخول؛ وهذا سيحدث في الأيام القليلة القادمة".
لن يكون أمام بوتين إلا أحد الممرين الإجباريين الذين تم تحديدهما؛ ولكن بوتين ظهر أنه يقفز إلى الممر السوري كورقة احتياط غافلاً أنه حتى في سوريا ليس بإرادته المحضة؛ فهو هناك يخدم مصالح الأقوياء المتأصلين تأثيراً في تلك المنطقة، فأساساً، تمَّ تعهيده الملف السوري لإرضاء طموحاته المرضية من جانب، واحتوائه، وتسجيل نقاط عليه من جانب آخر.
وهكذا، كسب بوتين بجدارة عداء كل من احتكَّ معهم بشأن القضية السورية: زاد توتر العلاقات بينه وبين أميركا والغرب الأوروبي؛ أصبح رهينة للخبث والاستغلال الإيراني والأسدي؛ تحول إلى خادم لطموحات المشروع الصهيوني في المنطقة؛ والأهم من كل هذا، كسب عداءً أزلياً تجاه شعب سوري ينشد الحرية والخلاص من ربق الاستبداد الأسدي، حيث حالَ دون ذلك بإصرار ومكابرة.
من جانبه، لم يكن بوتين غافلاً عن المستنقع الذي أُريد إدخاله في أتونه؛ فسارع إلى استثمار الفخ الغربي ذاته، مستنداً إلى دعوة "الشرعية الأسدية" له؛ وبدأ عملية وضع اليد على سوريا عبر عقود طويلة الأجل مع "الشرعية الأسدية"؛ إلا أن التحالف الدولي، وعلى رأسه أميركا، حَرَمَه مما أُطلِق عليه اسم "سوريا المفيدة" فعلاً، حيث النفط والماء والقمح؛ ليجد نفسه محاصراً بين شمال سوري بغربه وشرقه بيد التحالف وتركيا، من جانب؛ وباقي سوريا تحت نفوذ إيران، من جانب آخر. وللمفارقة مِن قبل إسرائيل، التي تستبيح ذلك النفوذ بالتنسيق معه ومع طموحاته بكسب ودّها، من جانب ثالث.
من هنا، سارعت تلك الأبواق، وبعد أزمة أوكرانيا، والخيارين المريرين، إلى تصوير القفز إلى الملف السوري معتبرةً حميميم "رأس حربة" في الاشتباك الدولي بين روسيا والناتو، ومسوّقة لـ "الوفاء البوتيني-الاسدي". وهذا سيثبت عاجلاً أنه أكثر مراراً من الخيارين إياهما؛ فالحال في القضية السورية كما ذُكِر أعلاه. هناك مَن خطط لتكون سوريا هي المستنقع القاتل لبوتين، لا مخرج نجاة من أعبائه الاقتصادية والسياسية. فبوتين سيجد نفسه يضع قدماً على حدود أوكرانيا، والثانية في حميميم، والثالثة في إسرائيل، والرابعة تحت رحمة العقوبات، والخامسة في التعامل المتعجرف مع رئيس فرنسا ورئيس وزراء اليابان؛ وجسده ينضح دكتاتوريةً تخنق الروس من طموحاته وبهلوانياته حتى تنضج نتائج احتواء مرضه.
ومن هنا، يبقى مخرجه المضمون، والأكثر براعة بإعكاسه كل ما ينتج عن الاعتماد على بهلوانية وغد اسمه "لافروف"، ووحشية مخلوق اسمه "شويغو"؛ والتمسك بذيل كلب، لن يوصله إلا للهاوية المحتمة. وأول خطوتها لا يمكن أن تكون إلا من سوريا عبر إدارة الظهر لكل القوى التي أرادته أن يغوص في هذا المستنقع، وبالعودة إلى جوهر القضية السورية. فإن كانت الملايين السورية خرجت أساساً للخلاص من هذه المنظومة الاستبدادية، فالقانون الدولي سيكون بجانبه، بفعل حقوق الإنسان، لا بفعل الفيتو. وإعادة الإعمار في سوريا، والتي ينتظر جناها الاقتصادي، لينقذ اقتصاده الهش، ستكون ممكنة، بفعل تطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، لا بابتزاز العالم. وعودة اللاجئين ستكون محققة، بفعل الإرادة والضمانات الدولية، لا بفعل الابتزاز والمساومات.
قد يكون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو متعذراً الآن، إلا أن الغرب يدعم هذه الدولة وشعبها، رغم الانتقاد الحاد الذي وجهه الرئيس الأوكراني للغرب لرخاوته، تجاه نوايا بوتين، في كلمته في ميونخ بالأمس. مأساة بوتين تكمن بأنه إذا غزاها، ستكون نهايته؛ وإن أحجم، ستكون النهاية الأبشع. ومن هنا عليه القبول بجائزة ترضية مقابل دخوله بالمصيدة السورية؛ ولكن ليس كما يطمح، ولا كما يناسب أمراض منظومة الاستبداد الأسدية؛ بل بخروج سوريا والسوريين من مأساتهم. ولا يحدث ذلك عبر الاستمرار ببهلوانيات الدببة. فلا مخرج إلا بقلب الطاولة على كل السياسات البائسة التي نهجها في سوريا حتى الآن؛ وأولها الإقرار الصريح والفعلي بالتنفيذ الكامل والحرفي للقرار الدولي 2254، وخاصة الإقرار بتشكيل هيئة حكم انتقالي لا مكان فيها للمنظومة الاستبدادية، التي أوقفت حياة سوريا وأهلها. قد يكون هذا رهاناً على مجرمين؛ ولكن إذا كانت مصلحتهم تكمن بهكذا فعل، فربما يفعلونها. لننتظر ونعتبر؛ ونستعد لانتفاضة شعبية عامة وعارمة
المصدر: تلفزيون سوريا