عبد القادر المنلا
لم يشهد تاريخ الاعتقالات السياسية ظاهرة أشد قسوة من ظاهرة اعتقال العائلات والتي يقاد فيها أفراد الأسرة جميعاً إلى السجن دون استثناء النساء والأطفال ولا حتى الرضّع.
وبمراجعة تاريخ العنف والجريمة، سنجد أن نظام الأسد يحتل موقع الصدارة فيما يتعلق بالتوحش ومستويات التعذيب التي يمارسها في معتقلاته، ولكن ظاهرة اعتقال الأسر، تعد امتيازاً حصرياً له وماركة إجرام مسجلة لا ينافسه فيها أحد.
في هذا الإطار سيبدو الحديث عن براءة الأطفال ضرباً من الرومانسية، فاعتقالات الأسد السياسية تطول فقط الأبرياء بصرف النظر عن أعمارهم، فضلاً عن أنها تطول الشخصيات الوطنية التي تنتصر لسوريا لا لشخص الرئيس، أو تلك التي يشتبه في أنها تقوم بواجبها الإنساني تجاه أهل جلدتها حتى وإن لم تساهم في الحراك الثوري ولم تشترك في أي نشاط سياسي.
النموذج الحي الأكثر شهرة والأوسع تداولاً منذ سنوات هو أسرة الدكتورة رانيا العباسي، المغيبة مع زوجها وكل أطفالها منذ تسع سنين في معتقلات الأسد، ومنذ أيام، ظهر حسن العباسي شقيق الدكتورة رانيا ليشرح في فيديو نشره على وسائل التواصل الاجتماعي ظروف اعتقالها ويؤكد على ضرورة الكشف عن مصيرها ومصير أسرتها، رغم إلحاح والدته عليه ألاّ يفعل تجنباً لانتقام النظام، وهنا يتكشف لنا أمران لا يمكن أن نجدهما عند أي تركيبة أمنية أخرى مهما كان مستوى توحشها وديكتاتوريتها، الأول يتعلق بطموح أهالي المعتقلين في سوريا والذي يتوقف عند حدود "الكشف عن مصير المعتقل"، فمحاكمة المتهمين في سجون الأسد أمر لا يفكر فيه السوريون لإدراكهم مدى عبثيته، لا يحتاج نظام الأسد إلى قضاء ومحاكم، فضباطه وجلادوه هم القضاء وهم المحكمة، ولديهم كامل الصلاحية في التصرف بحياة المواطنين داخل السجن وخارجه أيضاً.
والأمر الثاني، وربما يبدو موجعاً أكثر ويلخص فحوى الرعب الذي أراد الأسد من خلاله ترهيب السوريين، يتعلق بما ذكره شقيق الدكتورة المعتقلة عن رغبة الوالدة في عدم تحريك قضية ابنتها في الإعلام خوفاً من الانعكاسات السلبية التي قد تحدث للمعتقلين إن كانوا لا يزالون أحياء.
ليست قضية الدكتورة العباسي هي القضية الوحيدة التي يتم فيها اعتقال الأسر، فقصة زكي كورديللو -على سبيل المثال- تؤكد تلك الحالة أيضاً حيث تم اعتقاله مع ابنه وشقيق زوجته وأحد الأصدقاء، والذي كان موجوداً معهم أثناء مداهمة المنزل بالمصادفة، هنا يمكننا الحديث عن الاعتقال الجماعي، اعتقال كل من تجمعه الصدفة بالمتهم حتى وإن لم يكن مطلوباً، يمكننا الحديث عن اعتقال ضيوف المطلوب أيضاً، في ظاهرة تؤصّل للعنف والإرهاب الحقيقي بعيداً عن كل أنواع الإرهاب الأخرى.
ثمة قصص لا تنتهي، وربما تصلح قصة الطفل التي رواها المرحوم ميشيل كيلو، عنواناً عريضاً واضحاً وصريحاً لرواية اعتقال الأُسر، ذلك الطفل الذي ولد في السجن وحكم عليه بالاعتقال مع والدته وكبر في المعتقل دون أن يرى شجرة ولا عصفوراً، أو يعرف عنهما شيئاً، دون أن تتاح له الفرصة لرؤية معالم الحياة الحقيقية، فحكم عليه بالعتمة والجهل والحرمان في أغرب حالة اعتقال تشهدها البشرية.
لا يشك أحد في براءة ذلك الطفل، ولكن براءة أمه أيضاً أمر غير قابل للشك، والدليل القاطع على براءتها وبراءة أي معتقل هو أن نظام الأسد من قام بالاعتقال.
وبالاستناد إلى موقف والدة الدكتورة العباسي سنكتشف أن ثمة معتقلين كثراً لا يمتلك ذووهم جرأة الإعلان، ويفضلون الصمت أملاً في تقليل حالات التوحش التي تمارس ضد معتقليهم، وخوفاً من إثارة الوحش الكامن في السجّان..
همجية الاعتقالات لدى نظام الأسد لا تتوقف عند درجة التوحش التي تمارس ضد المعتقلين فحسب، بل تمتد لتطول الإنكار والكتمان والتهديد الذي يطول كل من له علاقة بالمعتقل، وأيضاً عدم تردد النظام في فبركة وتزييف الروايات المتعلقة بالمعتقل، وإجبار ذويه على التصريح بها وتبنيها أمام كاميرات التلفزيون وعلى وسائل الإعلام، بل لقد فعلها النظام كثيراً حينما كان يعتقل بعض أفراد العائلة ويترك الباقين لاستخدامهم وإجبارهم على نفي حالة الاعتقال، تماماً كما كان يجبر أهالي المتظاهرين الذين قتلوا برصاص الأمن على الظهور في وسائل الإعلام لإلقاء تهمة القتل على العصابات المسلحة وشكر القاتل الحقيقي والثناء عليه وتمجيده واعتباره المخلص والمنقذ.
يعي النظام جيداً مدى الرعب الذي يسببه للمواطنين وهم يتخيلون أنفسهم معتقلين مع أطفالهم، معتقلين كعائلة، ولذلك فهو يختار نماذج عشوائية من الأسر لا ليعاقبها على فعل ارتكبته، ولكن لكي يعزز حالة الخوف لدى الأسر الأخرى، ونموذج الدكتورة رانيا العباسي أحد تلك النماذج التي أراد النظام أن يجعلها عبرة للآخرين بصرف النظر عن براءة الأسرة، ولربما اختارها أسرة مميزة ومعروفة بشكل مقصود ليقول للآخرين ممن هم أقل شأناً اجتماعياً أنه ليس لديه كبير، فضلاً عن أن تهمة العباسي التي وجهها النظام نفسه لا تتطلب -إن صدقت- أكثر من بضع ساعات للتحقيق، ولكن رسالة النظام الترهيبية تريد أن تحذر السوريين من أي سلوك لا يتوافق مع إرادته مهما كان إنسانياً وأخلاقياً ووطنياً، فهو وحده من يحدد مفهوم الوطنية، وله الحق في نفي أية وجهة نظر أخرى لا تتوافق كلياً مع رؤيته والتعامل معها على أنها جريمة خيانة..
يشعر جميع السوريين في مناطق سيطرة الأسد أنهم متهمون، حتى وإن ثبتت براءتهم، لذلك فهم يحاولون باستمرار تجنب الاعتقال بأية طريقة عن طريق التظاهر بالولاء الشديد باعتباره الوسيلة الوحيدة للتخفيف من احتمالات الاعتقال، أية حياة تلك، وأية دولة تلك التي تكون أولوية مواطنيها أن يحاولوا طوال الوقت تجنب الاعتقال؟
لقد اعتاد النظام على إبادة الأسر وعلى المجازر الجماعية واعتبر ذلك أمراً لا يستحق التوقف عنده، ولهذا فهو لا يجد حرجاً في اعتقال الأسر بل قد يصنف ذلك السلوك على أنه أقصى درجات الرحمة التي يعامل بها مواطنيه.
يكفي إدانة للنظام السوري أن المواطن يفضل الموت على أن يقع في يد سجانيه، وتلك إحدى أكبر الجرائم التي يقترفها النظام من ضمن سلسلة جرائمه التي لا تعد ولا تحصى.
المصدر: "تلفزيون سوريا"