سمير صالحة
حروب الكر والفر بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والإيرانية قديمة وساحاتها واسعة بأهداف سياسية وأمنية واقتصادية. بعض العمليات يتم الكشف عنها وبعضها الآخر يبقى طي الكتمان. طهران كشفت قبل 4 أعوام عن شخصية أحد أهم جواسيسها الإسرائيليين غونين سيغيف الذي تمكن من الوصول إلى منصب وزير للطاقة والبنى التحتية مثلا. ما أعلنته السلطات الإسرائيلية حول اعتقالات خلايا تجسس إيرانية في الأعوام الأخيرة لا يمكن تجاهله حتما. جاسوس في منزل وزير الدفاع يعتقل العام المنصرم. وشبكة تجسس من 5 أفراد يتم توقيفها في كانون الثاني الماضي.
الضربات التي أنزلتها تل أبيب بإيران والمعلن عنها كانت موجعة أيضا. بينها سرقة ملفات سرية تتعلق ببرامج إيران النووية في العام 2018 وظهورها بعد 3 أشهر في تل أبيب. ثم عملية اغتيال أحد أبرز المشاركين في برامج إيران النووية محسن فخري زاده قبل عامين في عملية منظمة كانت تحتاج إلى مشاركة فرق وخلايا رصد ومتابعة وتنفيذ صدمت الإيرانيين لناحية حجم الاختراق والتوغل. طهران أرادت نقل المواجهة مع الموساد الإسرائيلي إلى الساحة التركية هذه المرة حيث تتلاحق المعلومات والأنباء التي تشير إلى احتمال وقوع انفجار سياسي دبلوماسي قريب في العلاقات التركية الإيرانية. بعد ساعات فقط من كشف النقاب عن شبكة تجسس واختطاف لمعارضين إيرانيين تنشط في العديد من المدن التركية وتوقيف 14 فردا ينتمون إلى هذه المجموعة ويحملون جنسيات إيرانية وتركية، سربت وسائل الإعلام التركية والإسرائيلية نبأ إنزال جهاز الاستخبارات التركية "ميت" ضربة جديدة بشبكة تجسس إيرانية وتركية كانت تعد لاغتيال أحد كبار رجال الأعمال والصناعيين الأتراك من أصل يهودي يعيش في مدينة إسطنبول.
ما قد يخيب آمال طهران أكثر ورغم أنه لا يوجد أي تعقيب رسمي بشأن الحادثة بعد إلا أن المعلومات التي تتناقلها وسائل الإعلام التركية والإسرائيلية تتحدث عن تنسيق أجهزة الاستخبارات في البلدين منذ أسابيع في رصد تحركات أفراد الشبكة البالغ عددهم 9 عناصر وتنقلاتهم، وهم يحاولون التجسس على رجل الأعمال التركي يائير غللر الصناعي المتخصص في قطاع التكنولوجيا المتطورة وأجهزة التصنيع العسكري والتخطيط لاغتياله انتقاما لمقتل فخري زاده.
لا يوجد أي تعقيب رسمي بشأن العملية حتى الساعة وحدها التقارير الإعلامية المتناقلة بشكل مفصل مع صور أفراد المجموعة هي التي تقول إن إفشال المحاولة تم بعد رصد كل تحركات أفراد الخلية واتصالاتهم الداخلية والخارجية مع الرأس المدبر والمسؤول الأول الموجود في طهران ياسين طاهر مقندي ومساعده في تركيا صالح بيجهوز، وجمع تفاصيل موثقة حول تنقلاتهم وهم يتابعون تحركات رجل الأعمال بين منزله في حي بشكتاش ومكان عمله في منطقة شتالجا إحدى ضواحي إسطنبول. والتقاط الصور له وإرسالها إلى المسؤول الاستخباري الإيراني. طهران وضعت اسم يائير على لائحة الأهداف الواجب تصفيتها منذ فترة وهي كانت تتابع تحركاته بانتظار الفرصة المناسبة. لكن تدخل أجهزة الاستخبارات التركية والإسرائيلية في اللحظة المناسبة أفشل المخطط وأدى إلى الكشف عن الكثير من تفاصيله.
الواضح تماما هو أن التحقيقات الأمنية والعدلية الأولى التي جرت مع المتهمين كشفت النقاب عن الكثير من التفاصيل حول العقل المدبر، والتجييش والتجهيز وطرق التواصل بين أفراد الشبكة وأن كل هذه المعلومات موثقة وإلا لما كانت تمت عملية تسريب أسماء وصور المتورطين في محاولة الاغتيال على هذا النحو. الواضح أيضا أن أنقرة تعد للانتقال بالملف إلى شقه السياسي في العلاقات على ضوء الوثائق والمستندات والاعترافات وأن المرحلة المقبلة ستكون أصعب في مسار العلاقات التركية الإيرانية.
أرادت إيران تنفيذ عملية اغتيال من هذا النوع في قلب مدينة إسطنبول لاستهداف أكثر من عصفور بحجر واحد:
- الانتقام لمقتل فخري زاده من خلال تصفية رجل أعمال إسرائيلي معروف في تركيا والعالم.
- محاولة الإساءة إلى سمعة تركيا أمنيا من خلال اختراق من هذا النوع وبهذا الحجم في قلب مدينة إسطنبول.
- عرقلة الحوار والتقارب التركي الإسرائيلي الذي بدأ يظهر إلى العلن في الأسابيع الأخيرة ويكاد يتوج بلقاء قمة بين الرئيسين في البلدين والذي سيكون على حساب علاقاتها ومصالحها مع أنقرة وقد يعرقل الكثير من خططها وأهدافها الإقليمية.
ما العلاقة بين قرار وقف إيران لصادرات الغاز إلى تركيا في منتصف الشتاء تحت ذريعة عطل فني طارىء وبين حادثة توقيف جهاز الاستخبارات التركية لخلايا التجسس والخطف والاغتيالات التي تعمل لصالح إيران في تركيا والتي كان آخرها إحباط مخطط اغتيال غوللر في إسطنبول؟
ما قامت به طهران عبر قطع إمدادات الغاز عن تركيا لأيام قد يكون عملية مقصودة هدفها عرقلة قرار أنقرة بالكشف عن تفاصيل التحرك الاستخباري الإيراني ومحاولة الاغتيال الأخيرة وأصابع الاستخبارات الإيرانية فيها من خلال تقديم الكثير من الأدلة والوثائق التي تثبت تورط طهران المباشر في هذه العملية.
قناعة الكثيرين من الأتراك اليوم أنه لا يمكن الفصل بين نشاط جهاز الاستخبارات الإيراني المكثف في الآونة الأخيرة فوق الأراضي التركية وبين العديد من التطورات السياسية والاستراتيجية الإقليمية:
- إيران منزعجة من التحول الحاصل في سياسة تركيا الإقليمية وانفتاحها الجديد على الخليج ومصر وإسرائيل وتدرك أن ذلك سيضر بمصالحها وحساباتها الإقليمية في المنطقة، ويعرقل أكثر من مشروع استراتيجي إيراني في مسائل خطوط الطاقة والتجارة وحركة البضائع. وأنّ سياسة تركيا الجديدة في ملفّات الطاقة عبر مناطق البحر الأسود وشرق المتوسط والقوقاز تتجاهل النفوذ والمصالح الإيرانية الاستراتيجية على أكثر من خطّ استراتيجي في شرق المتوسّط والبحر الأسود والقوقاز لا يمكن أن تتجاهل حصّة إيران ونفوذها.
- وإيران أيضا تريد عرقلة خطط ومشاريع أنقرة في تفعيل برامج البحث عن مصادر طاقة جديدة بينها اكتشافات حوض البحر الأسود والاتفاقيات الاستراتيجية في زيادة كمية استيراد الغاز الأذري والتفاهمات التركية الإسرائيلية والتركية المصرية حول ترسيم مياه الحدود المائية في شرق المتوسط، ووضع خطط تعاون لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وكلها ستنعكس سلبا على حساباتها ومصالحها في المنطقة.
- وبين الاحتمالات أيضا أن تكون طهران بين المتضررين من إلغاء مشروع "إيست مد" لنقل الطاقة إلى أوروبا بشراكة إسرائيلية قبرصية يونانية وبالتنسيق مع اليونان. وأنها تريد الانتقام ومحاولة عرقلة المشروع الأميركي الجديد الذي ينهي حلم طهران بفتح الطريق أمام تفعيل خطط وصولها إلى مياه المتوسط عبر السواحل السورية بالتفاهم مع روسيا أولا، ثم عبر لبنان من خلال الضغط على حكومته لقبولها شريكا في نقل الغاز اللبناني والاستثمار فيه، لكن التحرك الأميركي الأخير خيب تماما آمال طهران عبر خطط بديلة تطرحها واشنطن في إطار تفاهمات أوسع بين الدول المتشاطئة.
- طهران منزعجة كذلك من التحولات الإقليمية في سياسة تركيا الخارجية التي يُعاد رسمها في هذه المرحلة باتجاه فتح الأبواب على مصراعيها أمام التقارب التركي العربي والتطبيع التركي الإسرائيلي على حساب تراجع واضح في العلاقات التركية الإيرانية بسبب التوتر في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي.
سيكون هناك حتما في الأيام القليلة المقبلة موقف تركي رسمي حول نشاطات الأجهزة الاستخبارية الإيرانية في تركيا وإلا لما كانت أجهزة الاستخبارات التركية سربت كل هذه التفاصيل حول الأسماء والتحركات والعمليات الموثقة بالصور والتنصت والتعقب. ما الذي ستقوله أنقرة لطهران وكيف سيكون الرد الإيراني مهم طبعا، لكن الأهم يبقى كيف سترد تركيا على محاولات إيرانية تتكرر باستمرار فوق أراضيها وتستهدف المعارضين الإيرانيين الذين لجؤوا إلى تركيا؟
فمشكلة أنقرة الأخرى هي في تحليل وتحديد أسباب نجاح أجهزة الاستخبارات الإيرانية تسجيل كل هذه الاختراقات في الداخل التركي، وتجنيد عملاء أتراك يعطونها ما تريده من خلال التجسس على الإيرانيين الموجودين في تركيا ورصد حركة المعارضين الإيرانيين وتنقلاتهم واستهدافهم عند اللزوم كما حدث في منتصف كانون الأول 2020 عندما كشف جهاز الاستخبارات التركية عن خلية تجسس تعمل لصالح إيران نجحت في اختطاف أحد رموز المعارضة الإيرانية خلال زيارة له إلى تركيا.
ولاحقا في شهر تشرين الأول المنصرم في مدينة فان الشرقية الحدودية مع إيران عندما أحبط جهاز ال"ميت" محاولة اختطاف ونقل ضابط إيراني معارض والكشف عن المتورطين البالغ عددهم 8 أشخاص بينهم عملاء أتراك وإيرانيون. محاولة اغتيال رجل الأعمال التركي من أصل يهودي لو نجحت كانت ستعطي طهران أكثر من فرصة لإشعال أكثر من جبهة تعني أنقرة وسط كل هذا الحراك السياسي الذي بدأته مع دول المنطقة. أفشلت الأجهزة الأمنية التركية المحاولة، فهل ستتوقف إيران عند ذلك أم ستحاول من جديد في مكان آخر وبشكل مختلف؟
المصدر: "تلفزيون سوريا"