حسن النيفي
لقد انتهى لقاء الدوحة عشية السادس من شهر شباط الجاري بنجاح، بل ربما فاق هذا النجاح مجمل التوقعات السابقة، سواء من حيث التنظيم والإدارة، أو من حيث تناول المضامين النقاشية وسيرورة الحوار، وكذلك من جهة المخرجات التي تمثلت بالتوصيات النهائية، هذا ما أكّده بكل زهو وافتخار، القائمون على ندوة الدوحة، وعلى وجه الخصوص المراكز البحثية التي ساهمت بإنجاز اللقاء، وما يمكن إضافته في هذا السياق، هو أن جميع مقومات النجاح كانت مضمونة سلفاً قبل انعقاد اللقاء المذكور، وذلك نظراً للصيغة التي أُعلِنَ فيها عن اللقاء، وكذلك طبيعة الأشخاص المدعوين، فضلاً عن عناوين الموضوعات المطروحة للحوار في الندوة:
1 – فما جرى في الدوحة هو ( ندوة بحثية )، وبالتالي فإن المعنيين بتلك الندوة هم أصحاب الاختصاص والخبرة، وليس بالضرورة أن يكونوا من عموم السوريين، ثم إن ما ستفضي إليه تلك الندوة لن يكون مُلزِماً لأحد، باعتباره مُخرجاً بحثياً حوارياً لشرائح من المعارضة السورية، وليس نتاجاً لمؤتمر وطني جامع مُلزِم التنفيذ.
2 – الغاية من اللقاء هي التقييم والمراجعة واستشراف المستقبل، وما حصل بالفعل لم يتجاوز ذلك.
3 – لعل الندوات البحثية والحوارية التي أُقيمت منذ عام 2011 وحتى الآن بخصوص الشأن العام السوري يتجاوز عددها الآلاف، وجميعها انتهت وليس ثمة من يُلزمها بتنفيذ أيٍّ من مخرجاتها، وبالتالي ما الفرق بين ما جرى في ندوة الدوحة وما كان يجري في سالفاتها؟
4 – ولئن كانت العبرة في الخواتيم، فإن ما اختتم به لقاء الدوحة أعماله لا يجانب ما يطالب به عموم السوريين، ذلك أن التوصيات الختامية تضمنت التأكيد على ثوابت الثورة والتمسك بالقرارات الأممية وعدم التفريط بالحقوق.
5 – ثم ألم يجسّد لقاء الدوحة رسالة إلى نظام الأسد وحلفائه، وللمجتمع الدولي عموماً، بأن المعارضة السورية ما تزال رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه؟
وبهذا يكون المؤتمرون قد أنجزوا كلّ مقوّمات النجاح للقائهم، بل قطعوا السبيل أمام أي تطاول أو أي اتهام بالتقصير أو الانحراف، بل ربما نظروا إلى أي كلام آخر، خارج هذه المُحدّدات، أو أيّ انتقاد من عامة جمهور الثورة، على أنه ضرب من الشوشرة أو وضْع العصي في العجلات، وليس ببعيد أن يكون دسيسة تنطوي على خيانة وطنية وخدمة لأعداء الثورة، وفقاً لأصحاب هذا المنظور.
ربما أقنعت المُحدِّدات السابقة أصحابها بنجاعة ما أقدموا عليه أو تباهوا بإنجازه، وربما أيضاً عزّزت لديهم الثقة بجواز إسكات جميع الألسنة التي اعتادت الثرثرة، أو أدمنت الانتقاد لأجل الانتقاد فحسب، كيف لا وهي التي لا يعجبها العجب، تستسهل كيل التهم ولكنها عاجزة عن الإنجاز، أما آن لهذه النزعة ( العدمية) أن تنتهي؟ ولعله من غير المُستغرب أن يتجرأ بعضهم بالقول للعامة: الندوة شأن خاص بالجهة أو الجهات الداعية والمدعوين، فلمَ تحشرون أنوفكم فيما لا يعنيكم؟
إن ما اختتم به لقاء الدوحة أعماله لا يجانب ما يطالب به عموم السوريين، ذلك أن التوصيات الختامية تضمنت التأكيد على ثوابت الثورة والتمسك بالقرارات الأممية وعدم التفريط بالحقوق
ولكن ما هو مؤكّد أن جميع تلك التحوّطات والتحصينات المسبقة التي اتخذها أصحاب ندوة الدوحة لم تكن رادعة لكثيرٍ من السوريين من أن يتحدثوا ويتطاولوا ويحشروا قلوبهم وعقولهم وليس أنوفهم فحسب، ولعل السبب في ذلك ببساطة يعود إلى أن أصحاب القضية، أية قضية، لا يملكون التعاطي مع قضيتهم بنزعة براغماتية مجرّدة، ولا يتعاطون كذلك مع الأحداث وفقاً لمبدأ سدّ الذرائع، بل يتفاعلون مع قضيتهم بعقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، فهم أصحاب معاناة، بل إن عِظَمَ مأساتهم جعلتهم يتابعون ويترقبون بلهفة لا تخفى، مجريات لقاء الدوحة، ليس بالضرورة لقناعتهم بفحوى اللقاء، بقدر ما هو بؤس الواقع المعاش سواء في مخيمات النزوح أو بلدان اللجوء أو أي بقعة من الجغرافيا السورية، هؤلاء لا يؤمنون بوصاية جماعة أو جماعات محدّدة على الشأن العام السوري، ولا تفوتهم البراعة الهندسية لمراكز البحوث في تكتيكاتها وقدرتها على التلميع والترويج، لعله من الصحيح أنهم يندفعون بفعل تراكم الوجع ويستشعرون بحدس الثائر، ولكنهم لا يعدمون عقل السياسي أيضاً، ولهذا – ربما – لا يرون في معايير النجاح التي يلوّح بها مؤتمرو الدوحة سوى علائم خذلان وإخفاق لهم، فلئن كانت الغاية هي المراجعة والتقييم، فإن نجاح هذه العملية مشروط بالقدرة على التجاوز واتخاذ القرار، ولئن كان تكرار سرديات الفشل والأخطاء هي سمة من تتهمونهم بـ ( العدمية) فأولى بكم أنتم أصحاب الصدارة والقرار أن تتجاوزوا ذلك نحو الحالة الإيجابية المتمثلة باتخاذ القرار.
ربما توقع كثير من السوريين أن تكون ندوة الدوحة امتحاناً أخلاقياً لأجسام المعارضة الرسمية بكل تفريعاتها، ومناسبة جادّة للوقوف أمام الذات بكل مسؤولية وشجاعة، ولكن يبدو أن ما دار من سجالات ومكاشفات بين بعض الشخصيات لم يتجاوز – بمجمله – إفراغ شحنات الاحتقان، أي حالة من (التنفيس وتصفير درجة التوتر) والاحتواء، يتشابه مفعولها مع ما كانت تفعله مسرحيات دريد لحام ودراميات ياسر العظمة في انتقاد الفساد، وربما أسرف بعضهم بالتفاؤل حين ظن أن ذلك اللقاء سيكون تحدياً أيضاً للإرادات الدولية، من خلال شروع المعارضة بإحداث إصلاح نوعي في أجسامها، من شأنه أن يعيد للقضية السورية بعض اعتبارها، علماً أن الجميع يدرك أن حضور الائتلاف وهيئة تفاوضه ودستوريته ما كانوا ليحضروا لولا حصولهم على ضمان بعدم المساس بهياكلهم التنظيمية وأدوارهم الوظيفية، ولكن قدر الظمآن يبقى محكوماً في التعلّق بقطرة ماء.
خروج ندوة الدوحة بتوصيات، مهما بلغت أهميتها، من دون أن تكون مقرونة بأيّ محدّد زمني أو خالية من قرائن إجرائية، فضلاً عن عموميتها وسيولة تأويلاتها، لهي خطوة مكرورة و مسبوقةٌ ولاحقة لأي لقاء يجري بين الناشطين السوريين في أي قرية أو مدينة أو بلدة، وحتى على وسائل التواصل منذ العام 2011 وحتى الآن، ولئن حُقَّ لمن ائتمروا في الدوحة أن يفرحوا بالولادة الناجحة، فقد حُقّ أيضاً لكثير من السوريين أن يحزنوا على وليد ميّت.
المصدر: تلفزيون سوريا