شورش درويش
في كتابها الأشهر "أيخمان في القدس .. تفاهة الشر" (ترجمة أحمد زعزع، دار الساقي، بيروت، 2018)، حاكت المفكّرة الألمانية الأميركية حنّة أرندت سرديّة خارجة عن مألوف المحاكمات التي طاولت أقطاب النازيّة، ابتداءً بالمشهديّة والبعد المسرحي لجلسات محاكمة النازيّ أدولف أيخمان في "بيث هاميشباث" (بيت العدل في القدس)، مروراً بمعالجة سياسة الحل النهائيّ الذي اضطلع بجزء منها المتهم، ووصولاً إلى الحكم النهائي/ الإعدام. وفيما ذاع صيت عبارتها الأشهر التي تحدّثت فيها عن "تفاهة الشر" الناجم عن فشل المجرم في التفكير، فإنّها جوبهت ووصمت بـ"كراهية الذات"، نظراً إلى ما أعلنته من تفاهة أيخمان، وأن ارتكاباته وفظائعه ما كانت إلّا جزءاً من طموحٍ متصلٍ بالترقّي الوظيفيّ، وأن تفاهته كانت المعبر ليصبح لاحقاً من أشهر مجرمي العالم، وهو بذلك لم يجسّد الكراهية والتعطّش للدماء، بل شيئاً أسوأ بكثير، "الطبيعة المتخفّية للشرّ النازيّ".
تبدو قراءة أرندت شديدة الراهنية في كل ما يتصل بفكرتي الشرّ والعدالة، وكتابها المشار إليه يبقى شديد الالتصاق بمشاهد الطغاة والقتلة داخل أقفاص الاتهام. وإذا كانت محاكمة الطغاة وظهورهم بمنظر بائس قد أعادت الحيوية لقراءة أرندت مرّات عدّة، فإنّ محاكمة الضابط السوري السابق أنور رسلان، في كوبلنز الألمانية، تعيدنا مجدّداً إلى تصفّح تقرير أرندت عن تفاهة الشرّ.
انقسم سوريون، بين نطق الحكم على الرئيس السابق لقسم التحقيق لفرع الخطيب (الفرع 251) في دمشق، العقيد أنور رسلان، بين سعيدين وحزينين. ومشاعر السعادة والحزن تعبر عن انقسام يمكن وصفه بأنّه حسن النيّة، ذلك أن أرندت أنبأتنا بأن العدالة "تسمح بالحزن، لكنها لا تسمح بالغضب"، وسبب الحزن عند بعض السوريين كان لأن الحكم لم يتناسب مع هول ما جرى، فرسلان كان مسؤولاً، وفقاً لقناعة المحكمة، عن موت 27 شخصاً على الأقل، وعن تعذيب آلاف، من بين ذلك أعمال اغتصاب. وكانت السعادة لأنّ المحاكمة الماراثونية التي استمرّت نحو عامين، وامتدت على مدى مائة جلسة استماع، أفضت إلى حكم على المتهم بالسجن المؤبّد، والمؤبّد الألماني 15 عاماً يمضيها السجين في ظروفٍ تراعي الشرط الإنسانيّ.
وجه آخر للانقسام كان بين زاعمين أن العدالة انتقائيّة، لجهة أنّها تنال من مجرمين ينتمون لطائفة معيّنة دون سواها، وهذا تأويلٌ ينطوي، على تهافته، على إحساس مديد بمؤامرة كونيّة على طائفة دون سواها، فيما يبدو الانقسام الأخير بين مؤيّد ورافضٍ لمحاكمة المنشقّين عن النظام، ومعارضة ذلك تعني أن معارضة النظام تجبّ ما قبلها من جرائم وارتكابات، وفي هذا بؤسٌ لا يمكن وصفه سوى أنّه ينمّ عن تصوّراتٍ مشوّهة لمعاني العدالة والمساءلة، كيف لا وقد قفز رسلان من مركب النظام إلى مركب المعارضة بسهولة ورشاقة فائقتين. وخاتل وماطل في موضوع تسليم وثائق فرع الخطيب التي وعد بها معارضين، والأشد مرارةً أنه لم يبدِ ندمه ولم يعترف بجرائمه لا خلال انضمامه للمعارضة "الرسميّة"، ولا عبر جلسات المحاكمة. ولعلّ تصوّر معارضين وافقوا على مضض في قبوله معارضاً يتقاطع مع نظرة رسلان إلى نفسه، إذ إنّه كان "عبد المأمور"، والعبد بوصفه منزوع الإرادة لا يُساءل عمّا اقترفه من جرائم وفظاعات!
لم يبدُر التعاطف مع رسلان وفقاً لمسألةٍ كانت أرندت قد اهتمت بها، وهي علم "الفيزيوغنومي" المنصبّ على الشكل الخارجي الدال على الشخصيّة، ذلك أن شكل رسلان في قفص الاتهام لم يُثر أدنى شفقةٍ تذكر، وزاد في ذلك إصراره على رفض التهم الموجّهة إليه، وعدم قدرته على اختلاق روايةٍ مُحكمةٍ لما جرى، فيما التعاطف بدر من معارضين وجدوا بذرة التعاطف في معلّقاتٍ سياسيةٍ لا قيمة لها، منها ما هو طائفيّ، ومنها ما هو مرتبط بإرجاء تنفيذ العدالة إلى حين محاسبة النظام بكليّته. والأسوأ من ذلك أن رسلان دخل في "مطهر" المعارضة في وقت لاحق، وكأن الاغتسال بماء المعارضة يكفي لأن تُحال الجرائم إلى النظام، لا إلى المسؤولين عن ارتكابها!
قد يمثّل أنور رسلان، في صورةٍ ما، ما قالته حنة أرندت "لم يكن أيخمان شرّيراً حتى، بل أقرب إلى المخيف والمروّع". كان رسلان مخيفاً ومروّعاً طبقاً لشهادات الناجين وذويهم، ولا تهمّ هنا أيضاً مسألة القول بتفاهة الشر أو اعتبارات الوظيفة في مسار المحاكمات ونطق الحكم تالياً، إذ إن تفاهة أيخمان، أو رسلان، في هذه الأثناء، ومحاججاتهما، لا تعفيانهما من المحاكمة ومن العقاب، على ما قالته أرندت في أيخمان، وما حكمت به المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بحق رسلان.
ينبغي القول إن محاكمة رسلان التي جرت في كوبلنز في جوهرها محاكمة لمسنّن صغير في آلة النظام العقابية في سورية، وهي إلى ذلك محاكمة من نوع خاص لرهط من المعارضين ممن يفتقرون الإحساس بالعدالة. أمّا الأهم فكان ما استبطنه حكم المحكمة، حيث أن العدالة ممكنة وأن ألمانيا لا تصلح لأن تكون أرض الإفلات من العقاب وجنّة الجلّادين والقتلة. وما قاله وزير العدل الألماني ماركو بوشمان إنّ ما حصل يعتبر "عملاً رياديّاً" يساعد السوريين/ الضحايا في تعقّب القتلة والجلّادين في دول ديمقراطية أخرى، في وسع ولايتها القضائية أن تمتد إلى حيث محاسبة مرتكبي جرائم ضد الإنسانيّة.
المصدر: "العربي الجديد"