عمر كوش
لا تخرج الاحتجاجات التي اندلعت في كازاخستان، منذ الأيام الأولى للعام الجاري، عن نطاق حراك الشعوب المستمر للخلاص من الأنظمة التسلطية والديكتاتورية، ونيل حريتها، واستعادة كرامتها، وتحسين أوضاعها المعيشية، مثلما حال حركات الاحتجاجات التي شهدتها دول أوروبا الشرقية، وتلك التي بدأت في بلدان الثورات العربية قبل أحد عشر عاما، وما تزال جذوتها متقدة في السودان ضد حكم العسكر فيه.
وعلى الرغم من أن الفتيل الذي أوقد نار الاحتجاجات كان إعلان السلطات الكازاخية رفع أسعار الغاز المسال في بلادٍ تعد من أهم الدول المنتجة له، إلى جانب أنها من الدول المصدّرة للنفط، إلا أن السبب الأساسي للاحتجاجات يكمن في التطلع إلى الخلاص من واقع قهري وقمعي، يعاني منه الشعب الكازاخي الأمرّين تحت نير نظام ديكتاتوري فاسد، بناه الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف منذ العام 1991، وهو الذي أوهم الشعب الكازاخستاني بأنه يريد تحويل بلدهم إلى نموذج يحاكي كوريا الجنوبية، لكن النموذج الذي وعدهم به جسّده في نموذج يحاكي النموذج القمعي السائد في كوريا الشمالية.
وبعد أن اكتمل النموذج القمعي في كازاخستان، سلّمه نزارباييف في عام 2019 إلى قاسم جومارت توكاييف، الموالي له، ضمن صفقةٍ متفق عليها، جرت في سياق عمليةٍ شكلية ومدبرة لتنظيم مواقع السلطة ومرتكزاتها وضبطهما، حيث إن دور توكاييف بقي محدوداً، لأن مقاليد السلطة الحقيقية بقيت في يد نزارباييف، من خلال سيطرته، مع أفراد عائلته وحاشيته، على مفاصل السلطة، وخصوصا أجهزة الأمن، إلى جانب سيطرتهم على معظم مرافق الاقتصاد وقطاعاته، إضافة إلى تعيينه رئيساً لمجلس الأمن القومي مدى الحياة، ونائباً في مجلس الشيوخ، ومنحه لقب "أبو الأمة". ولم يكتف بذلك كله، بل جرى إطلاق اسمه نور سلطان على عاصمة كازاخستان بدلاً من أستانة. وبالتالي، ليس عبثاً أن يتوجه المحتجون الكازاخستانيون إليه مطالبين برحيله، حيث رفعوا شعار "ارحل أيها الرجل العجوز"، وحطموا تمثاله في مدينة تالديكورغان، الأمر الذي يذكّر بتحطيم محتجين سوريين تماثيل حافظ الأسد وتمزيق صوره في الشوارع والساحات، وبالشعارات التي وجهوا فيها اللعنة عليه وهو في قبره، بوصفه المسؤول الأول عن مأساة السوريين، ومؤسّس النظام الديكتاتوري في سورية، والذي ورثه عنه ابنه بشار.
ويبدو أنه حين تواجه الأنظمة القمعية والديكتاتورية الحراك الاحتجاجي في بلدانها، فإن السيناريو السوري يحضر بقوة في حالاتٍ عديدة، بوصفه سيناريو تكرّره الديكتاتوريات، وهو ما يدعو إلى النظر في أوجه التشابه بين ما حصل في سورية منذ أكثر من عشر سنوات وما يحصل في كازاخستان في أيامنا هذه، إذ على الرغم من فروق كثيرة بين البلدين على عدة مستويات، إلا أن ما يجمع بينهما تشابه نهج النظام القمعي وممارساته وأدواته في كل منهما، إلى جانب نهب ثروات البلاد ومقدّراتها، واستشراء الفساد الواسع في كل من البلدين.
ومثلما وصف بشار الأسد ونظامه المحتجين السوريين بالجراثيم والمندسّين والعصابات الإرهابية، فإن رصيفه الرئيس الكازاخي، توكاييف، لم يختلف عنه وعن أترابه من الديكتاتوريين، حيث سارع إلى وصف المحتجين بأنهم "عصابات إرهابية تلقت تدريبات خطيرة في الخارج"، وأمر قوى الأمن والجيش بقمعهم بقوة السلاح، وفرض حالة الطوارئ في العاصمة ومعظم أنحاء البلاد، ولم يكتف بذلك، بل سارع إلى دعوة دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، من أجل قمع الحراك الاحتجاجي، وتثبيت دعائم حكمه الديكتاتوري، الأمر الذي يذكّر بما فعله الأسد، حين زجّ الجيش إلى جانب القوى والأجهزة الأمنية لقمع المحتجين السوريين، ثم استدعى الإيرانيين ومليشيات حزب الله للدفاع عنه. وحين اشتد الخناق عليه، استدعى روسيا وآلتها العسكرية، كي تتدخل إلى جانبه في حربه ضد السوريين، وتعيد تثبيت حكمه الديكتاتوري الطامح في أن يستمر إلى الأبد.
غير أن ما يميز كازاخستان موقعها الجيوسياسي الهام في منطقة آسيا الوسطى، إلى جانب اعتبارات عديدة تتعلق بعوامل جغرافية واقتصادية، كونها تتمتع بمساحة جغرافية كبيرة، حيث تحتل المرتبة التاسعة بين أكبر دول العالم مساحة، في حين أن تعداد سكانها لا يتعدّى 20 مليون نسمة. وهي بلدٌ مجاور لروسيا وللصين أيضاً، ويرتبط اقتصادها بوشائج كثيرة مع الصين، وفي الوقت نفسه، تربطها علاقات قوية مع روسيا، وخصوصا بين الرئيسين الروسي بوتين والرئيس الكازاخي الحالي توكاييف والسابق نزارباييف، ويوجد على أراضيها، وتحديداً في مدينة بايكونور، مركز القاعدة الفضائية الروسية، وهي أكبر منصة إطلاق فضائي في العالم. كما تمتلك كازاخستان أكبر اقتصاد بين دول آسيا الوسطى، وأراضيها غنية بالنفط والغاز، وتحتوي على احتياطيات مهمة من معادن المنغنيز والحديد والكروم والفحم. والأهم أنها تعدّ أكبر دولة منتجة لليورانيوم، إلى جانب امتلاكها إمكانات زراعية كبيرة، وتاسع أكبر دولة مساحة، الأمر الذي يجعلها موضع تنافس وصراع جيوسياسي بين روسيا والصين من جهة، وبين روسيا ودول الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، من جهة ثانية، فضلاً عن حضور تركيا في كازاخستان، بوصفها الخصم القوي لروسيا في منطقة آسيا الوسطى، والتي تربطها علاقات قوية مع كازاخستان، كونها إحدى الدول المهمة في "المجلس التركي".
ونظراً إلى أهمية كازاخستان القصوى لروسيا، فقد سارع ساستها، عبر منظمة الأمن والتعاون الجماعي، إلى التحرّك والإمساك بزمام المبادرة، وإظهار قدرتهم على الاستجابة السريعة، عبر نقل قوات من الجيش الروسي على الفور إلى كازاخستان، فيما انتظروا إلى عام 2015 كي يتدخلوا عسكرياً بشكل مباشر إلى جانب نظام الأسد، الأمر الذي يظهر أن الساسة الروس أردوا انتهاز الفرصة لتثبيت نفوذ روسيا في المنطقة، وللتأكيد على أن كازاخستان تقع ضمن المجال الحيوي لها، ولن تسمح لأي قوةٍ بالاقتراب منها. لذلك، الصراع الجيوسياسي على كازاخستان مرشّح للتصعيد بين روسيا والولايات المتحدة. وتزداد احتمالات تكرار السيناريو السوري مع التدخل العسكري الروسي في كازاخستان، وبما ينذر بتحوّل روسيا إلى قوة احتلال فيها مثلما هي الحال في سورية، وبتحول كازاخستان إلى ساحة جديدة لصراع دولي وإقليمي.
المصدر: صحيفة "العربي الجديد"