سميرة المسالمة
يستبق قطبا التفاوض الدولي (الولايات المتحدة وروسيا) مباحثاتهما في جنيف الأسبوع المقبل بوضع نقاط علامات بارزة لمراكز قوتهما في الملفات المختلف حولها، ومنها الملف السوري، على الرغم من أنه ليس المعني بجدول أعمالهما، إلا أنه أحد المؤثرات الجانبية التي تفيد في تثقيل موقف روسيا من جهة، وكشف خبايا ردود الفعل المستقبلية للجانب الأميركي من جهة مقابلة. والشأن السوري، على ما يظهر للعلن، أسهل القضايا التي يجري التلاعب بمضمونها، من خلال تعدّد القراءات للقرارات الدولية المتعلقة بها، وطرق تنفيذها، من بيان جنيف 1 وحتى قرار مجلس الأمن 2254، وما بعدهما بشأن المساعدات الدولية والممرّات الإنسانية، وتبع ذلك الانتقال من مفاوضات جنيف إلى آستانة، ثم إلى متاهات اللجنة الدستورية، ما يبدّد أوهام بعض السوريين عن حجم الاهتمام الدولي بمتابعة تطبيق التصريحات أو القرارات ذات الصلة بالصراع في سورية وعليها.
واللافت أنه باستعارة أي محادثة بين الطرفين بشأن الخلافات (خارج الملف السوري)، ومنها الموضوع الأوكراني، وإسقاطها على الوضع السوري، سنجد أن الطرفين يستخدمان المصطلحات نفسها في مواجهة بعضهما ضد التدخل في شؤون الدول المستقلة التي ينتهكان سيادتها، فبينما تتمسّك التصريحات الأميركية باستقلالية أوكرانيا دولة ذات سيادة لا يجوز التدخل في شؤونها والاعتداء عليها، تواجه روسيا التدخل الأميركي في سورية بالتعبير نفسه، وتطالب بخروج قواتها من شمال سورية، في وقتٍ تناقض فيه الولايات المتحدة نفسها أيضاً، برفض التدخل الروسي في أوكرانيا، بينما فتحت هي المجال واسعاً أمام تدخل القوات الروسية في سورية، ولاذت بالصمت عن توسع نفوذ إيران في كل من العراق ولبنان واليمن وسورية.
ولذلك يمكن قراءة التغيرات الأخيرة للجانبين في سورية ضمن مروحة خياراتهما لاستفزاز بعضهما في سورية، ولمصلحة حواراتهما أو مفاوضاتهما على ملفاتٍ خارجها، فالتغيير الحاصل في تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي، ألكسندر لافرنتييف، واستبقت بأيام التواصل بين الرئيسين، الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، في نهاية العام المنقضي، تؤكّد أن الموقف الروسي الذي استطاع استمالة كيانات في المعارضة السورية بتوجيه تركي، كان يهدف إلى احتواء "حالة" بهدف تبديدها، لا حل قضيتها على أساس عادل، وبذلك فقد امتلكت روسيا منذ عام 2017، أي مع بدء دخول ما تسمّى "المعارضة" في "كوريدور" مفاوضات آستانة المعتم، الوقت اللازم لتمييع ملامح الصراع السوري، وضمنه تضييع القضية السورية التي أضحت دولياً مجرّد قضية إنسانية، تتعلق بتقديم مساعدات، أو إنشاء مخيمات، أو تسهيل حياة المشرّدين.
وسهّلت المعارضة مهمة روسيا في سورية باختلافاتها وتمزّقها، وقبل ذلك بعسكرتها الصراع، وتصوير ما يجري في سورية حرباً متكافئة بين جيشين يعلن كل منهما بين حين وآخر انتصاره ورفع علمه على الأرض المسيطر عليها، ما حيّد جانباً حقيقة الثورة على النظام، وبدل أن تكون قضية تغيير سياسي نحو المواطنة والديمقراطية، أو قضية صراع بين الشعب والنظام الحاكم بطبيعته الاستبدادية، أصبحت قضية صراع مسلّح بين طرفين، وقد شكّل ذلك رافعة للموقف الروسي أمام المجتمع الدولي عموماً، والجانب الأميركي تحديداً، الذي منحها صفة المفاوض والمتحكّم بالملف السوري، في مقابل كيانات المعارضة الممزّقة، وأجهضت القرارات الدولية، وشعارات المساندة لحقوق السوريين في دولة ديمقراطية لمواطنين أحرار.
وفقاً لهذا الاعتبار، تمارس روسيا دورها في سورية من منطلق أنه نقطة قوة تفاوضية لها مع الولايات المتحدة. ولذلك، فإن تغيير تصريحاتها في ما يتعلق بعمل اللجنة الدستورية، والغرض من تغيير الدستور في سورية "يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في البلاد"، بحسب تصريح لافرنتييف في 27 ديسمبر/ كانون الأول، يؤكد أنها تتعامل مع القضية السورية حسب متغيرات الوضع الدولي مع مصالحها، وليس من منطلق راعي عملية تفاوضية سورية - سورية سلمية. أي إن الدستور السوري ورقة تفاوضية جديدة ترميها قبيل جلستها المنتظرة مع الجانب الأميركي، لتأكيد أن جعبتها بما يتعلق بالملف السوري لم تفرغ من المفاجآت، وأنها في كل مرّة قادرة على التلاعب بمصير السوريين، من مسودة الدستور الذي قدمته للمعارضة في أول اجتماع لها في آستانة في 24 يناير/ كانون الثاني 2017، وتضمن تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، في وقت تتوسّع فيه مهام البرلمان، وضمن معايير جديدة لعلاقة السلطات مع بعضها، إضافة إلى ما يحتويه من تغيير في شكل الدولة، حيث طرحت المسودة هوية فيدرالية تركّز على تحقيق مطالب الكرد في سورية، إلى ما تلا ذلك من تصريحات عن انتخابات رئاسية مبكّرة يتم مسح مضامينها بسهولة، عبر ما قاله المبعوث الرئاسي الروسي قبل أيام، ويمثل حقيقة الموقف الروسي في سورية.
ويمكن باختصار توضيح القول إن الصراع اليوم لا يجري على الدستور الذي أقالته الأجهزة الأمنية قبل الثورة وبعدها، وإنما على حقيقة الهدف من الثورة، وعدم وجود داعمين دوليين لحل الصراع في سورية، لأنه حتماً لا يمكن اختزال ما جرى ويجري بتعديلات دستورية يُستفتى عليها شعبٌ يرزح تحت سلطة الأمن التي كانت سبباً في تفجير الثورة، وأسهمت في حرف مسارها من سلميتها إلى عسكرتها، لنكون اليوم أمام صراعٍ على كل شيء، على السلطة، وعلى طبيعة الدولة، وعلى هويتها، هل هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، أم هي سلطةٌ تغوّلت على الدولة، وأخضعتها لمصالحها، بالتالي، باتت متحكّمة بالشعب وبالدولة في آن واحد. علماً أن هذا النظام لم يعنه وجود دستور سابقاً، ليكون موضع اهتمامه لاحقاً، لأن سلطته الأمنية والعسكرية أكلت الدستورين السوريين، الحالي والسابق، وستفعل ذلك في اللاحق، لأنها تشتغل وفقاً لقانون القوة، قوة العنصر المسلح على المواطن الأعزل، أو سلطة الهيمنة الشاملة على المجتمع، وعلى مؤسسات الدولة وعلى الموارد.
المصدر: صحيفة "العربي الجديد"