منوع

ثقافة

ألبوم صور عن الدمار والحب في مجموعة "5 ميغا بيكسل" للشاعر فايز العباس

الجمعة, 12 نوفمبر - 2021

الطريق- عبد الحافظ كلش


لعلَّ اختيار فايز العباس عنوان "5 ميغا بيكسل" لمجموعته الشعرية، لم يكن اعتباطياً؛ إذ إنَّ تحديد دقة الكاميرا بدقة منخفضة يفسح له المجال في توسيع العبارة الشعرية، في معنىً معكوس لِما قاله النفّري: " كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".

 جاء العنوان العتبة المضيئة للومضات الشعرية في المجموعة هكذا؛ لأنَّ الشاعرَ لا يريد عرض المشهد السُّوري بدقةٍ عالية.

العبارة الشعرية في المجموعة تمتح من ذاكرة العينين المليئتين بالصور الحزينة؛ فتأتي القصائد على شكل لَقطات شعرية تعرِّف القارئ بها، مع المحافظة على الابتعاد عن دقة توصيف الألم، إذ لابدَّ من مسافة أمان.

ومضة الأجناس المتداخلة

منذ الصفحة الأولى بعد العنوان، يفاجئنا الشاعر بومضةٍ نصيَّة ساخرة لا هُويَّة لها، في قالبٍ أشبه ما يكون بـ"القصة القصيرة جداً":

"واحد/ اثنان / ثلاثة/ (طاخ)...أقصد: فلاش

يمازح قنَّاصٌ أبناءَه، وهو يأخذُ لهم صورةً تذكارية"

وقد نقول بكثيرٍ من الجرأة، ليس من باب الاتكاء على رشوحات التأويل البعيد أو تحميل النص مالا يحتمل: لابدَّ أن تستوقفنا إشكالية التجنيس الأدبي في الومضة التي مرَّت قبل قليل؛ كونها تغذّت وأصبحت انعكاساً وامتداداً للهوية السورية التي ماتزال متشظية، ومتمردة بالوقت نفسه، وهاربة من القوالب والاستعبادات والتصنيفات القديمة الجامدة، فما بعد 2011 يختلف كثيراً عمَّا قبله: 

"كنَّا أربعين شبيهاً/ أعرف منهم اثنين؛ أنا وأنا الذي هنا/ أنا الذي أضاع كلَّ شيء وطفق يبحث عنِّي/ وأنا الآخر الذي قطع الحدود، وبعدها لا خبر جاءني عنه"

توظيف للتقنية

لم يغفل الشاعر عن توظيفه للتقنية في مجموعته الشعرية "الرقمية" ابتداءً بالعنوان العام: " 5 ميغا بيكسل"، ومروراً بالأقسام الثلاثة للمجموعة: "1- كاميرا أمامية 2- فلاشات 3- كاميرا خلفية".

وانتهاءً بالعناوين الفرعية لبعض القصائد: "سيلفي، لمس، نسختان، صورة أخيرة، ذاكرة ممتلئة لعينين، فلاش أخير، فوتوشوب، صورة عامودية..."

وجاءت - أحياناً - عمليةُ المزاوجة بين النص الشعري والصورة الرقمية؛ انتماءً لما يسمَّى بالأدب التفاعلي أو القصيدة التفاعلية الحديثة (Interactive Poem) دون إغفالٍ لقوة الشعر الخفية التي تنمو من تداخل الصور بالعواطف.

ومع ملاحظة أنَّ قصائد المجموعة موجودة على الورق بشكل مادي ملموس، إلا أنها كانت - ربَّما- وليدة اللحظة على شبكات التواصل الاجتماعي في عالمٍ رقمي افتراضي منح حرية القراءة والتفاعل عند المتلقي، وحرية الكتابة و"التعديل" عند الشاعر.

وأيضاً، مع ملاحظة أنَّ الشاعر فايز العباس لم يستخدم الصورة المرئية المرافقة للقصيدة الشعرية الرقمية الحديثة، وإنَّما قدَّم العبارة انتصاراً للشعر وثقةً به في إيصال المعنى المبتغَى، بمعنى أنَّه: التزم بالدقة المنخفضة للكاميرا في العنوان العام للمجموعة.

الصورة الشعرية الرقمية المراد عرضها أمام القارئ يستلُّها الشاعر من ذاكرةٍ "ملأى بالصيادين، والضباع، والأقفاص"

الانطلاق من المألوف

في أغلب قصائده، لم يبتعد فايز العباس عن المألوف في صياغة جمله الشعرية، فـ"الفن هو اكتشاف للمألوف" كما قال الشاعر والناقد المسرحي الأميركي أرشيبالد، لكن ثمَّة صعوبة لا تَخفَى على من يبتغي الهروبَ من القوالب الجاهزة أو تغليف الجمل الشعرية بما هو غامض. إنَّ مكمن الصعوبة هنا؛ هو أن ينطلق الشاعر من المألوف ماشياً على ذاك الخيط الرفيع الفاصل بين الفِخاخ الكثيرة للتقريرية المباشرة وإصابة المعنى ببلاغة دون الابتعاد عن الشاعرية، أو اللجوء والاعتماد على مقولةٍ شعبية متداولة ثمَّ استيلاد حياة جديدة منها:

"ازرع ولو شجرة/ سيتغازل تحتها عاشقان"

وفي موضع آخر:

" أنا الشبيه التاسع والثلاثون لي/ ومنذ نسختي الأولى أبحثُ عن الطبعة الأخيرة/ أتخيَّلني بعينين صغيرتين حادتين/ وروحٍ مثبَّتَةٍ على جسدي بالمسامير".

في مجموعة "5 ميغا بيكسل" تنتهي معظم القصائد بنهايات غير متوقعة:

" سأعود من هذه الحرب/ وآخذ معي علبةَ عيون/ أذكر أنَّ شجرة الميلاد لم تُزيَّن في السنة الماضية"

وقد يأتي التناص اللطيف مع آيات قرآنية كريمة، كما في قول الشاعر:

" غيابُكِ مَلِك/ وروحي قرية/ (إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً) "

وكذلك في قصيدة (تدوين الموت):

" أذكر أنِّي متُّ كثيراً/ غير أنَّ هذي المرة هي الأقسى حتى الآن/ أذكر ميتتي الأولى حين علّمني غرابٌ كيف أحفر قبراً بحجم أخي" 

بالإضافة إلى مجيء بعض العبارات الشعرية بالكثير من الإدهاش، بلغة سهلةٍ رقيقة:

" أنا الأعمى المشغولُ منذُ أوَّلِ العطرِ برسمِك/ فدعيني أتصوَّركِ بطريقةِ (بريل)"

البحث عن المرأة/ الوطن

لم يكن فايز العباس الوحيدَ الذي حاول استعادة توازنه من خلال البحث عن المرأة الوطن، وسط دمار الحرب، لكن ما يميِّز صورة المرأة المتخيَّلَة عنده هو في مجيئها على هيئاتٍ مختلفة في المجموعة، فتارةً تكون القاتلة:

" وأنا أعلّمكِ الصيد/ أقف خلفكِ تماماً/ أساعدكِ بوضع السهم وأشدُّ معكِ وترَ القوس / وأسقطُ مثلَ طريدة"

وتارةً تكون المقصِّرة في الحضور والمقصِّرة في الغياب؛ فيعاتبها الشاعر:

" أنا عاشقٌ سيِّئُ الطبع أريدكِ كاملةً في الحضور/ أريدكِ كاملةً في الغياب"

وتبقى الصورة الأكثر إيلاماً هي تلك الممثِّلة للوطن الحقيقي الذي سرقه اللصوص:

" أؤمن بالحظ/ رميتُ النرد مُضمِراً اسمَكِ/ فخسرتُ حياتي. قرأتكِ تعويذةً، فتناهبتني الأشباح. كتبتُ اسمكِ حجاباً وعلّقتُه في عنقي/ فتلقفتني الكوابيس. جعلتكِ حِرزاً لجلبِ الحب/ فكرهني الناس. وضعتُ صورتَكِ على باب البيت/ فسرقني اللصوص. وها أنا أجلسُ برفقةِ خساراتي الكبيرة/ فيما يجرِّب غيري حظّه"

وبعد، فإنَّ مجموعة "5 ميغا بيكسل" الطافحة بالصور المتناثرة بشكلٍ فوضويٍّ مُؤثَّث، تقول لقارئِها:

" الحياةُ قصيدة، وكلُّ فردٍ بيت، والموتُ هو القافية"

وهَا قد ابتعد فايز العباس عن القافية؛ لأنَّه مُناصرٌ للحياة والتجدُّد.

الوسوم :