ثقافة

محمد المطرود.. ذاك الكائن الترابي المسكون برائحة البرية

السبت, 5 يونيو - 2021
حاولتُ وسقطتُ عن فرسي، فلا تسقط يا بني
حاولتُ وسقطتُ عن فرسي، فلا تسقط يا بني

الطريق- عبدالحافظ كلش

وأنت تقرأ "آلام ذئب الجنوب" لا بدَّ أن تتمهَّل في تذوق النصوص الميتاروائية للمطرود، مثل من يتمهَّل وهو يبحث عن كمأ المعنى أو "الفگع" بلهجة أهلنا البدو.

بدءاً من العتبة/ العنوان: آلام ذئب الجنوب، يأخذك المطرود إلى التعاطف مع ذاك الذئب المتألم، رغم ما يحمله هذا التعاطف من غموض وخطر وتوجُّس، في صحراء العطش الممتدَّة والمحيطة بالجنوب حيث الانتماء.

الذئب بما يمثله من رمزية القوَّة عند البدو خاصةً، في توقه إلى الحرية والتمرد وعدم الرضوخ والكبرياء، هو المعادل النفسي المستأنَس به والذي يتكئ عليه المطرود في الحديث عن نفسه المُضَافة إلى جنوب الرد" المنفتح على الجهات.

 

سطوة المكان

يدرك السَّاردُ جيداً أنَّ " البيوت كانت أكثر أُلفَة عندما كانت مثلنا من طين" كما يقول "ريثتك"، ولذلك جاءت لغته في تصوير المشاهد بليغة التوثيق؛ تشعرك بالمكان، برائحة التراب، بلونِه، ببرودة الوحل المتشكل من سقوط الدلو عند البئر، وبالحلَّابات، وبرفوف القطا قربَ نزيز الماء، وباتساع الأفق ومزاجية الطقس ونزاقته.. كلُّ ذلك ستشعر به إن أنتَ قرأتَ لوحات "آلام ذئب الجنوب".

وإن أنتَ أصغيتَ السَّمعَ جيداً فستسمع صوتَ الأجراس في رقاب الغنم وعواءَ الذئب في لوحة "البدويات النازَّات ماءً ثقيلاً". 

المطرود يدرك أنَّ المكان له توقيعُه الخاص في ذات الشخص المتشكل عنه، مثلما يقول الدكتور الناقد خالد حسين:" المكان يشكِّلُنا ويتسرَّبُ إلينا ليدمغَ فينا بصمتَهُ، أثرَه، يتكلَّم فينا أو من خلالِنا حتى نغدو بمنزلة توقيعٍ له"

 

البطل المتواري في السرد

جاء المكانُ بطلاً في "آلام ذئب الجنوب" إلى جانب الفتاة التي اسمها "فتنة".. لكنَّ الجديد في هذه اللوحات الترابية هو ذاك البطل المختفي في السرد والدائم الحضور عند ذئب الجنوب المتألم، المتمثل بـ"النسيان" المتحايَل عليه .

بيد أنَّ طريقة التحايل والتماهي ومسح الظلال عن الهواء لم تجدي نفعاً مع مارد النسيان، فهناك فخاخ كثيرة للحنين كانت سبباً في لوحة السَّارد " حروبي السبع مع النسيان".

في حربه الأخيرة/الحرب السابعة، يعلن ندمه؛ لأنَّه خسر الكثير من الذكريات، فيقول: "كم أنا قاتلٌ وسفاحُ ذكريات!" 

 

فارس الريح

في ذاك الجنوب، المقابل للشمال حيث يقيم الشاعر، يتعمَّد الأب الحكيم تسليم ابنه الطفل للريح والمصاعب، فالابن هو امتدادٌ للأب الذي يجد صورته فيه ويرغب بأن يكملَ وينجزَ ما عجز عنه الأبُ ذاتُه:

" غير أنِّي حاولتُ وفشلتُ، وحاولتُ وسقطتُ عن فرسي، فلا تسقط يا بني"

المطالبة بالتجلُّد وعدم السقوط هما وصيتا الأب لابنه، بعد أن خبر الحياة بمصاعبها ولذائذها، فعلى الذئب أن يكون صقراً إن ضاقت عليه البرية. المهم أن يبقى الذئب فارساً للريح:

"راح أبي كطفلٍ يقلِّدُ حركات صقرٍ في السماء، يفردُ ذراعيه للهواء ويحركهما، لوهلةٍ خلتهما جناحين كبيرين، ربَّما لم تكونا كذلك، لكنَّ عين الصغير آنذاك كانت تمنح الأشكال حجماً غير حجمها...سيغري الصغير بحركة الصقر ليكونا معاً"

الأب البدوي أراد لابنه أن يكون شبيهاً بالصقور، فأصبح الابن منصتاً للريح، واستطاع اجتياز الاختبار بعد تعثرٍ وجروح:

" سيتعلَّم الطفلُ، وسيأتي يوميَّاً إلى الهضبة لا لينزلَ منها وإنَّما ليتسلقها".

------

"آلام ذئب الجنوب" لمحمد المطرود، منجز أدبي من النصوص الميتاروائية، صادر عن دار ميسلون للطباعة والنشر 2018، يتكون هذا المنجز من لوحات بريَّة مدهشة تنتمي للمكان نفسه، وتنتصر للمهمَّش منه.