عمر قدور
لو أنصفت الأسدية مؤسسيها لكان لرفعت الأسد على امتداد سوريا تماثيل بقدر ما لشقيقه حافظ، ولو تحلى الورثة فضلاً عن الإنصاف بقليل من المزاج الفني لدمجوا التمثالين في واحد، ليكون جسداً برأسين؛ رأس رفعت ورأس حافظ. ولو تخلى مناصرو حافظ الأسد من دون أخيه، الذين يأنفون السوية المبتذلة لرفعت، عن نفاقهم لرأوا كيف أن صورة حافظ ما كان لها أن تستقر كما يروّجونها لولا صورة رفعت بأسوأ ما فيها لدى هذا القسم من المؤيدين، وأسوأ ما فيها لدى المعارضين أيضاً.
إنه المسؤول عن مجزرة سجن تدمر في حزيران1980، قبل أن تشير إليه أصابع الاتهام كمسؤول رئيسي عن مجزرة حماة في شباط1982. صاحب سجل حافل بالفساد، يُتوّج برواية إفراغ الخزينة السورية لإعطائه ثمن رحيله إلى فرنسا، وحسب بعض الروايات لم تُرضِ الخزينة جشعه فتدخل سخاء القذافي بمئات ملايين الدولارات لنجدة حافظ الأسد في دفع الثمن.
في المجمل، وفي تفاصيل يصعب إحصاؤها أو حصرها، تقدّم سيرة رفعت نموذجاً قريباً زمنياً عن كيفية صناعة الشيطان، وعن الشيطان الذي يُلعن في العلن من قبل الغالبية، لكن له أيضاً أتباع يعبدونه، ويخترق تلك الغالبية المعلنة بمَن يعبدونه سراً. شيطنة رفعت لم تحدث كما بات شائعاً بسبب إقصائه، كانت تحدث في أيام عزه عندما كان رجل السلطة الثاني الذي يكاد يزاحم الأول. هو نفسه ساهم في شيطنة صورته، وربما أغوته صورة الشيطان، بينما كانت صورة حافظ تتكسب من المقارنة بين الصورتين، ومن ضمن ذلك صورة حافظ "السُنّي" بالمقارنة مع رفعت "العلَوي"!
في نيسان1975 صار رفعت عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث، ليجمع منصبه الحزبي مع قيادته سرايا الدفاع ورئاسته المحكمة الدستورية. ويبدو أنه اختار في القيادة القطرية رئاسة مكتب التعليم العالي لِهوى في نفسه، إذ سيسعى بعدها للحصول على شهادات دكتوراه، ثم لاحقاً سيؤسس رابطة خريجي الدراسات العليا. أهمية هذه النقلة هي في بروز سطوة رفعت التي ما كان لها أن تبرز سوى في المجال المدني، رغم تضخم ميليشيا سرايا الدفاع التي يقودها وتمييزها كجيش رديف مستقل يحظى بامتيازات مالية وتسليحية.
بعد توليه منصبه الحزبي، لم يتأخر في الظهور تعبير "جماعة رفعت"، وهي جماعة يُعرف أفرادها بولائهم "بل بولائهم الشديد" له من دون أن تكون تنظيماً بالمعنى الشائع، لكن مع وجود آليات تتيح له السيطرة والتحكم والتمدد. الحزب نفسه "أولاً" انقسم أيامها بين جماعة حافظ وجماعة رفعت، قبل حدوث الشقاق بينهما، ولا ريب في أن الانقسام جرى تحت أنظار حافظ وبرضاه. صار معهوداً وجود أمين فرع "أو أمين شعبة" محسوب على حافظ، مع نائب له "لا يندر أن يفوقه سطوة ومكانة" محسوب على رفعت.
القائد رفعت، بالتعبير الذي راح يستخدمه أتباعه، سرعان ما سيغزو المجال المخابراتي والمؤسسات المدنية. بالطريقة ذاتها تماماً، ثمة رئيس فرع مخابرات يُعيّن بالطرق المعمول بها آنذاك، إلى جانبه نائب من جماعة رفعت، هو إما منافس له بشراسة، أو يفوقه سلطة في الواقع. في المؤسسة العامة للمياه قد نرى مديراً عاماً عُيّن عبر الحزب وموافقة أجهزة المخابرات، وفي المكتب المجاور نائب له من جماعة رفعت، لا يسيطر فقط على المؤسسة وموظفيها بل يمارس سلطته بفجور على المواطنين المضطرين للمرور بمؤسسته، واستخدام ضمير الملكية هنا مقصود بدلالته.
بالطبع لم تكن مصادفة أن مسؤولي الظل، بالاسم الرمزي جماعة رفعت، كان كثر منهم ينحدر من المذهب العلَوي. بصياغة أخرى تربط بين ما سبق، كان هناك مسؤول شكلي "سني غالباً" محسوب على الحزب أو المخابرات مثل كل أصحاب المناصب من أدناها إلى أعلاها، بينما نائبه صاحب السطوة الفعلية علوي. السُني منهما محسوب على حافظ الأسد، لأن يرأس كافة الأجهزة التي تتولى تعيينه، بينما العلوي محسوب على رفعت الذي راح تمدده يُقرأ تسلطاً للعلويين على كافة مفاصل الدولة، أي أنه يتعدى الإمساك بالسلطة المركزية.
بينما كان رفعت يغزو المجال العام، بما لا يغيب عن أنظار شقيقه ولا يمكن حدوثه خارج موافقته، كانت الطليعة المقاتلة تعدّ نفسها أيضاً بدورات فيها ما هو عقائدي وما هو عسكري، بل بمعسكرات تمتد لأيام أو أسابيع فيها تلك التهيئة الفكرية والبدنية للقتال، ويصعب الظن بأن معسكراً لأيام "في غابات الفرلق مثلاً" كان بعيداً تماماً عن مخابرات حافظ "السني". في المساجد، راحت الدروس الدينية تنتعش إلى حد غير مسبوق مع تساهل شديد من المخابرات التي صرفت اهتمامها "بعد التدخل في لبنان خاصة" إلى ملاحقة التنظيمات اليسارية المعارضة.
بين عامي عامي 1976 و1979، أكثر من أي وقت سابق، سيتجهز الميدان للمواجهة المقبلة. الاستثمار الطائفي الذي باشرته السلطة، عبر "شيطانها" الصاعد، سيقدّم المبررات "وأحياناً وسيلة الإيضاح" الكافية لخطاب الطليعة المقاتلة ولخطاب الإخوان. الحديث عن تعاطف شعبي نالته الطليعة المقاتلة في بعض المدن لا يمكن فهمه من دون ذلك؛ لا يمكن فهم شعبية عدنان عقلة لدى قسم من السنة، في بعض المدن لا كلها، من دون فهم صعود وشعبية رفعت الأسد.
الاستثمار الطائفي كان متعمداً من قبل الأخوين الأسد، وبالتأكيد لم تكن غايته استجلاب تطرف أو عنف مقابل، فما يسير بآليات الواقع "كأفعال وردود أفعال" ليس مدبّراً أو متوقعاً كله. لكن، بخلاف عصيان الطليعة المقاتلة عام 1964، كانت الطائفية المتمثلة برفعت في خلفية الجولة الجديدة بينما كانت مواجهة الإخوان وعبدالناصر في خلفية أحداث حماة الأولى التي بقيت ضمن إطار ضيق جداً. وهكذا، لم تكن مثلاً مجزرة مدرسة المدفعية متوقعة بسبب تساهل الأسد مع الطليعة والإخوان، إلا أنها ستحرض على "وستكون في خلفية" مجزرة سجن تدمر كعملية انتقام طائفية غير متصلة فقط بمحاولة اغتيال حافظ الأسد الفاشلة.
أُقصي رفعت كما هو معلوم لأسباب لا علاقة لها بدوره الطائفي المتفق عليه، ففي أثناء المواجهة مع الإخوان سيدخل شقيقه جميل مجال الاستثمار نفسه، إنما على طريقته من خلال تأسيس جمعية الإمام المرتضى عام 1981. مرة أخرى سيُفسح المجال لجميل الأسد ومحاولاته "التبشيرية" على امتداد سوريا، مكتشفاً أو ملفِّقاً أصولاً علوية لسكان بعض المناطق كي ينضموا إلى جمعيته المسلحة بكونه شقيقاً للرئيس، الرئيس الذي يحرص على صورته من التلوث بشبهة الطائفية فيبادر إلى حل الجمعية بعد سنوات طويلة من نشاطها العلني.
في الواقع لم تنتهِ جماعة رفعت مع إقصائه، وأبرز تجلياتها أنصار ماهر الأسد الذين يرون فيه استمراراً لعمه. بعبارة أخرى، جماعة رفعت هي من اللوازم الأساسية للأسدية، ولحفاظها على ذلك المخزون الذي استُثمر فيه ليكون أكثر تطرفاً من السلطة نفسها. إنكار هذا الدور، وإنكار وجود الاستثمار من أصله، لا يفسّران تلك الشعبية المستمرة التي يحظى بها رفعت علانية أو سراً. لعل الذين يعبدون تمثال الأسدية برأسين هم أقل نفاقاً من الذين يرجمون "شيطانها" نهاراً ويعبدونه ليلاً.
المصدر: صحيفة "المدن"