أمجد أحمد جبريل
رغم تصاعد الابتزاز الإسرائيلي، وتكثيف مناورات عرقلة التفاوض التي تعكس الرغبة المزدوجة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وبعض الجهات الأميركية، في تعطيل الوساطة القطرية (للتوصل إلى هدنات وتبادل أسرى وصولاً إلى وقف لإطلاق النار في غزّة) وتشويهها وتخريبها، لتحقيق مآرب انتخابية شخصيّة ضيّقة، رغم هذا كلّه، استمرّت مساعي الدوحة الدؤوبة، ستة أشهر تقريباً، لإيجاد حلول ومخارج، لحالتي الاستعصاء والمُراوحة، اللتين أحاطتا بالجهود التفاوضية لتأمين إطلاق المُحتجزين الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، مقابل تدفّق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، والبحث عن مساراتٍ لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية هناك.
وفي إطار فهم تعقيدات البيئة المحيطة بالوساطة القطرية، بعد "طوفان الأقصى"، وتحليل مُستقبل هذه الوساطة، ثمّة أربع ملاحظات: أُولاها، انحياز إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السردية الإسرائيلية ومطالبها، فمنذ هجوم فصائل المقاومة الفلسطينية على "غلاف غزّة"، في 7 أكتوبر (2023)، تبنّت واشنطن السياسات الإسرائيلية، وواصلت دعمها بالسلاح والمال، بل عملت لإيجاد مخارج تخفّف من الغرق الإسرائيلي في أوحال غزّة (إسقاط المساعدات الإنسانية من الجو، وتدشين رصيف أميركي عائم قبالة سواحل غزّة، كما أعلن بايدن في 7 مارس/ آذار 2024)، بالتزامن مع مخاتلة واشنطن في إدخال تغييراتٍ شكليةٍ طفيفةٍ إلى الخطاب الأميركي، بهدف احتواء تصاعد المظاهرات الحاشدة في مدن كثيرة، التي تعزّزت بعد حراك طلاب الجامعات الأميركية وأساتذتها. وقد ترتّبت على سياسة بايدن تجاه حرب غزّة ثلاث نتائج متداخلة، أسهمت في عرقلة الوساطة القطرية. أُولاها، إزاحة الضغوط عن كاهل إسرائيل، سيّما مع تصاعد مأزقها في غزّة؛ إذ حاولت واشنطن، المرّة تلو الأخرى، فرض المطالب والشروط التفاوضية الإسرائيلية على الفصائل الفلسطينية، بغية تصويرهم "طرفاً متعنّتاً يرفض صفقات الحلول، ويُغيّر شروطه التفاوضية باستمرار"، وهو استمرار للسياسة الأميركية في تحميل الفلسطينيين مسؤولية فشل عملية التسوية برمّتها، خصوصاً بعد إخفاق مفاوضات كامب ديفيد الثانية (يوليو/ تموز 2000). والنتيجة الثانية، تكريس واشنطن وحلفائها أغلب جهودهم في الضغط لتحرير المحتجزين الإسرائيليين، بغية تجريد الفصائل من أيّ أوراق ضغط، مع تجاهل تفاقم معاناة المدنيين في ظلّ حرب إبادة شاملة تستهدف الشعب الفلسطيني بكامله. والثالثة، العمل على إضعاف مركز الوسطاء القطريين والأتراك، استجابةً للمطالب الإسرائيلية بنقل ملفّ الوساطة إلى مصر.
وهذا يعني إجمالاً أنّ واشنطن لم تلعب دوراً مساعداً لتسهيل عقد أي صفقة، إلا بالاشتراطات الإسرائيلية، إذ تتشارك واشنطن وتل أبيب هدف القضاء على حركة حماس، وتحرير المُحتجزين، ضمن إطار جزئي لا ينطوي على تقديم أيّ تنازلات لفصائل المقاومة، لمنعها من مجرّد التفكير مستقبلاً في استخدام خطف الرهائن أداةً للضغط على الحكومة الإسرائيلية أو حلفائها الغربيين لمبادلتهم (الرهائن) بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. بيد أنّ الأكثر أهمية انعكاسات تذبذب المواقف الأميركية على جهود الوساطة القطرية، ما يؤكّد وجود جهاتٍ من مؤسّسات وجماعات ضغط و"لوبيات" يمينية، صهيونية أو مُتَصَهْينَة، تمارس تحريضاً صريحاً أو مستتراً ضدّ أدوار الدوحة، بشكل دوري تقريباً، كما تكشّف خلال حصار قطر 2017 - 2020، ثم إبّان مونديال قطر 2022، ثم في حرب اليوم على غزّة.
تتعلّق الملاحظة الثانية بانعكاسات هشاشة الحالة الإسرائيلية، والعوامل الداخلية الإسرائيلية عموماً، على عرقلة الوساطة القطرية، إذ تبرُز متغيّرات شخصية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتداعيات أزمة التعديلات القضائية، وتفاقم الانقسام المجتمعي السياسي بشأن قضايا عدّة، وخشية نتنياهو من تداعيات أيّ صفقةٍ مع المقاومة الفلسطينية (سواء لتوقيع هدنة أو لتبادل أسرى أو لوقف إطلاق نار)، فضلاً عن تفاقم فشله في التعامل مع المشكلات الداخلية والخارجية، سيّما بعد هجوم 7 أكتوبر. وإلى ذلك، ثمّة ثلاثة عوامل إضافية تفسّر انتهاج نتنياهو سياسة تقليص صلاحيات الوفود التفاوضية الإسرائيلية، بالتزامن مع تصعيد العدوان الإسرائيلي في غزّة والضفّة الغربية ولبنان وسورية، ما يؤكّد التلاعب الإسرائيلي بتبديل الوسطاء، ورغبة نتنياهو في تقليص دورَي الدوحة وأنقرة، وتفضيل الدور المصري، الذي يمكن الضغط عليه عبر مداخل عديدة، أهمّها الضغوط الأميركية. أول هذه العوامل، طبيعة حكومة نتنياهو اليمينية الفاشيّة المتطرّفة، إذ يمارس أعضاؤها أدواراً وظيفية بقصد ابتزاز الدوحة، وكلّ الأطراف الإقليمية أو الدولية المؤيّدة للحقوق الفلسطينية. وثانيها، طبيعة السياسة التفاوضية الإسرائيلية القائمة على دمج أربعة أبعاد: الضغط العسكري، والمناورات السياسية، والحصار الاقتصادي، وتوظيف الحروب الإعلامية والنفسية، فأظهرت حرب الإبادة الراهنة على غزّة مستوىً عالياً من تكثيف الاغتيالات السياسية لقادة المقاومة والأطر المدنية، وارتكاب المجازر المروّعة في حقّ المدنيين (مُجمّعا الشفاء وناصر، الطبيّان، مثالين)، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، وتطويق المُربّعات السكنية بالأحزمة النارية، ما يعني أنّ الهدف الإسرائيلي المركزي لهذه الحرب، هو تدمير القطاع، وتهجير سكانه، قسراً أو طوعاً، ونشر الفوضى في أرجائه، وجعله في المحصلة النهائية مكاناً غير صالح للحياة مستقبلاً.
تتعلق الملاحظة الثالثة بانعكاسات ضعف الإطارين العربي والإقليمي على الوساطة القطرية. ورغم تداعيات إيجابية لـ"طوفان الأقصى" في تعزيز حضور قضية فلسطين، عربياً وإقليمياً ودولياً، فقد ولّد هجوم 7 أكتوبر تعقيدات هائلة في السياقين الإقليمي والدولي، نجمت أساساً من متغيّرَين: أحدهما الإحجام الدولي والإقليمي والعربي، عن تحدّي السياسات الأميركية الغربية في الحرب الراهنة، سواء في مجلس الأمن الدولي أو خارجه، وبذلك بقي الموقفان القطري والجزائري من دون دعم عربي أو إقليمي ذي بال. والآخر، توظيف إسرائيل الدعم الأميركي الغربي، والصمت العالمي، لتعزيز سلوكها الإجرامي تجاه غزّة. ورغم ارتكاب إسرائيل أخطاءً استراتيجيةً كثيرةً في الحرب كادت تفضي بها إلى عزلة دبلوماسية، خصوصاً بعد اغتيال أكثر من 110 فلسطينيين كانوا ينتظرون المساعدات الإنسانية في منطقة دوار النابلسي في فبراير/ شباط 2024، وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2728، في مارس/ آذار 2024، بشأن وقف إطلاق النار الفوري في غزّة خلال شهر رمضان، وبعد اغتيال إسرائيل موظفي المطبخ المركزي العالمي، في غزّة في مطلع إبريل/ نيسان الحالي. رغم ذلك، نجحت دبلوماسية نتنياهو في الالتفاف على التوبيخات الدولية اللفظية باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق (مطلع إبريل الحالي)، فأعادت تل أبيب بذلك تركيز الأنظار الدولية على الخطر الإيراني، وإعطاءه الأولوية، بعيداً عن الجرائم المرتكبة في غزّة.
تتعلق الملاحظة الرابعة بمستقبل الوساطات القطرية في حرب غزّة، فرغم وجود فجوة كبيرة بين المواقف الإسرائيلية المتطرّفة والمواقف الفلسطينية التي تسعى لتسوية سياسية تضمن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على كامل الأراضي المحتلّة عام 1967، فإنّ تداعيات "طوفان الأقصى" أوجدت ضغوطاً حقيقية على الطرف الإسرائيلي، وولّدت إمكانية حقيقية للتأثير في إعادة إطلاق عملية سياسية، دولية وإقليمية، للوصول إلى دولة فلسطينية، ما يعني في المحصّلة أمرين: أحدهما استمرار الحاجة إلى أدوار الوساطة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منعاً لتحوّله صراعاً إقليمياً أوسع، خصوصاً بين إيران وإسرائيل. والآخر، ضرورة بلورة مواقف عربية وإقليمية أقوى، بغية إسناد الطرف الفلسطيني لبلوغ حقوقه المشروعة، التي تبدو في منظورٍ تاريخيٍ مُقارَن، أكثر قابلية للتحقيق من أحلام اليمين الديني القومي الإسرائيلي، في إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، كما يتجلّى في أطروحات تهجير الفلسطينيين وإعادة احتلال غزّة وزرعها بالمستوطنات، وفي الطموح في السيطرة على ساحل غزّة، بسبب قيمته العقارية، وإطلالته على حقول الغاز القريبة في البحر الأبيض المتوسّط.
ورغم أنّ حرب غزّة زادت من بروز قطر وسيطاً إقليمياً، فإنّ أدوار الدوحة في الوساطة في الأزمات الإقليمية والدولية موجودة منذ عقدين تقريباً، فتتبنّى السياسة الخارجية القطرية دور الوسيط في الصراعات الدولية (وساطاتها في أزمات لبنان والسودان وفلسطين وأفغانستان وأوكرانيا...). أضف إلى ذلك ما تملكه الدوحة من ركائز أساسية لسياسة القوة الناعمة، وبروز الحاجة الأميركية الإسرائيلية إلى التفاوض مع حركة حماس، أقلّه بسبب ملفّ المحتجزين، مع رفضها التفاوض المباشر مع الطرف الإسرائيلي، وتمسّكها بالوساطة القطرية، بسبب نزاهتها وجدّيتها، كما جاء في تصريحات القيادي في حركة حماس، خليل الحيّة، لوكالة أسوشييتد برس (24 إبريل/ نيسان 2024).
يبقى أنّ قطر اكتسبت خبرة متراكمة، في كيفية التعامل مع الحملات السياسية الإعلامية التحريضية التي تستهدف البلاد، ونموذجها التنموي، وأدوارها في الوساطة، والبحث عن حلول للأزمات الإقليمية والدولية. لذا يُتوقّع استمرار الوساطة القطرية في ملفّات حرب غزّة، وغيرها من الملفّات، رغم وجود ثلاثة عوامل سلبية (تحدّيات) تؤثّر في مجمل مناخ التهدئة الإقليمية، الضروري لنجاح الوساطات عموماً. أولها، انفلات السلوك الإقليمي الإسرائيلي وتغوّله في المنطقة، سيّما في العقد الأخير. وثانيها، هشاشة أغلب المواقف العربية والإقليمية وإحجامها عن تحدّي السياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل، والإخفاق الإقليمي في اختبار غزّة الحاسم. وثالثها، احتمال صعود التيارات اليمينية الشعبوية على الصعيد العالمي، بما يعنيه من تآكل وتضييق مساحات الحركة الدبلوماسية أمام قطر (وغيرها من دول)، وعودة الصراعات لتهيمن على البيئتين الدولية والإقليمية، خصوصاً في الشرق الأوسط.
المصدر: العربي الجديد