جبر الشوفي
في 8 آذار 2024 وبتحرير للرمزية التاريخية للثامن من آذار من التباسها بتاريخ انقلاب البعث في 8 آذار 1963 تقدم المبادرون من (درعا والسويداء وحلب) بمبادرتهم الثلاثية آملين الوصول بها إلى كل السوريين لجس نبضهم وإمكانية تلبية الدعوة لإعادة إطلاق مسار السياسة الوطنية السورية من جذرها التاريخي العائد لوثيقة الاستقلال الأولى التي صدرت في الثامن من آذار 1920 والتي حددت بموجبها الدولة السورية جغرافياً ودستوريا لأول مرة وأعلنتها كيانا مستقلاً عن العثمانيين وعن أي دولة أجنبية، وذلك قبل أن تقوض جيوش غورو جنين تلك الدولة الناشئة ويسقط ملكها فيصل الذي لم يكن قد توج رسمياً بعد.
هذه المبادرة السورية بروحها ونصها، تضمنت خمس نقاط مفصلية، تشكل أساس نظرياً مرنا وقابلاً بالاستناد إليه لإنشاء وثيقة تفاهمات سورية، وبداية الانطلاق من الأساس السوري الوطني وتجاوز كل ما تراكم من خَبث السياسات الملتبسة للنخب الحاكمة، وطغيان الأنظمة العسكرية، وأمراض وعلل القوى السياسية المعارضة التي ظلت تتداول أزماتها مع أنظمة من نفس نسيجها الفكري والقيمي، حتى اتخذت طابع الصراع على السلطة وليس التغيير السياسي، مما أفشل السياسة وترك لأنظمة الاستبداد المتتالية، أن تخلق أسباب استمرارها واستبدادها وتوفر الحجج والذرائع للتعالي على المجتمع ولاحتكار التفكير والتدبير والسياسة وأخذ المعارضين لها بسياسة الترغيب والترهيب والاسترضاء.
بالإضافة للتناغم في طرح المبادرة وتبنيها من قبل ثلاث مناطق سورية، ترتبط بحيوية ومصداقية تصل الجنوب السوري بشماله ويتبناها بالصوت والصورة الشيخ أحمد الصياصنة، بما له من رمزية ومصداقية دينية/ واجتماعية وعمق انتمائه الوطني والقيمي، وبكونه من أوائل المدافعين الشجعان عن الحرية والكرامة، وممن قدموا فلذة أكبادهم شهداء على مذبح الحرية والكرامة. كل هذا إضافة إلى عمق إيمانه بالحرية أهله ليكون الأجدر بتزكية المبادرة الوطنية وتقديمها بحميمية وصدق نية، وعبر الانتماء إلى مضمونها الوطني والريادي ودعوة السوريين كافة إلى الالتفاف حولها والبدء بتفعيلها والتخلي عن كل أنواع الانقسام الطائفي والمذهبي والعرقي والمناطقي، وإعلانها وقفة صريحة فصيحة مع قضية الحرية واستعادة الكيان السوري السيد الحر والموحد في هوية وطنية جامعة.
وبدعوة الشيخ الصياصنة، تكتسب المبادرة دعما شعبياً من درعا وخارجها وتتجاوز حصرية النخب ونخبوية السياسة للانتقال إلى ساحة العمل السياسي السلمي مزودة بسلاح الفكر ومرجعية الوطن وأخلاقية الخيار والترفع عن الأنانية والنرجسيات والارتهان لدول جعلت من تشابك مصالحها سياسة وسلاحا، بتنا بموجبه نخون بعضنا ويقتل بعضنا بعضاً في إطار حرب الكل على الكل.
خمسة نقاط أساسية ومفصلية، يمكن أن يبني عليها بالحوار الجاد والمشاركة الواسعة:
أولاً: تأميم السياسة أي تحريرها من أيدي الملوثين والمرتهنين والنخبويين وجعلها شأناً عاماً، يتحمل مسؤوليتها وعي السوريين الذين دفعوا أكلافها العالية دماً ودماراً وتشرداً وامتهان كرامات، ويطمحون للخلاص عبر اتفاقهم على إدارة شؤونها غير مرتهنين سوى لتوافقهم ولحسهم الوطني وعزمهم على الخلاص من كل أنواع الاستبداد.
ثانياً: الحياة والحرية والأمان والكرامة، هي حقوق وطنية واجبة ولا يحققها إلا تضافر السوريين وإرادتهم الحرة وعزيمتهم التي لا تقهر.
ثالثاً: رفض الانطواء المحلي وتعني رفض التقوقع على المناطقية الإثنية والطائفة والعشيرة، وكل علاقات ما قبل الدولة وتحقيق الهوية الوطنية السورية الجامعة للهويات الثقافية المتنوعة وانصبابها في الهوية الواحدة.
رابعا: وحدة سوريا أي إعادة توحيدها بعد تحريرها من الاحتلالات ومن سلطات الأمر الواقع ومن النظام الذي دمر البلاد والعباد، وذلك عبر التنسيق والحوار والعمل المنهجي المشترك.
خامساً: وحدتنا في كثرتنا، بناء الثقة، وهي شروط أساسية لكل إرادة وعمل مشترك.. وفي التوقيع الختامي "حيي على الوطن" ريف حلب الشمالي (حلب) درعا البلد (درعا) القريا (السويداء).
تتميز هذه المبادرة بطرحها الهادئ وموضوعيتها وابتعادها عن الضجيج الإعلامي والدعائي وعن التسابق والمزايدات التي تغص بها الساحة السورية على مبدأ (إني أسمع جلبة ولا أرى طحينا). لذا بدت لي هذه المبادرة الطامحة لتغدو وثيقة وطنية، جديرة بوضع السوريين أمام مسؤولياتهم، لصنع مستقبلهم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، بعد أن باتوا شراذم في شتات الأرض وعلى أعتاب الدول، وليعقدوا العزم بأن يكونوا إخوة متعاضدين ومتشاركين وعاملين على ما يحقق الخير العام لهم، وهم أصحاب الأرض ومن عمروها وثمروها وهم من دفعوا تكاليف صيانتها وتطويرها عبر الزمن ولاسيما في وجه آلة الأسد الغادرة. وعلى الجميع أن يهبوا لاسترداد الكرامة والحرية والاستقرار في دولة الحق والقانون.
وهي باعتبارها مبادرة عامة، لا تخصص ولا يحق لأحد أن يعتبر نفسه غير معني بها. وأخص هنا الإخوة الكرد والسريان والآشوريين والتركمان والطوائف والعشائر وغيرهم لأنها لم تصدر عن جهة استعلائية، تفصّل على قدر الطوائف والملل والإثنيات والقوميات. بل إنها خطاب سوري عام.
وجميل أن تأتي هذه المبادرة لتتلاقى مع ثورة الشمال الغربي على هيئة تحرير الشام وقائدها الجولاني، وبعد هدوء الاقتتال بين العشائر وقوات قسد ودخول انتفاضة السويداء في شهرها السابع، وفي ظل مؤشرات لمخاطر شتى داخلية وإقليمية ودولية، ولاسيما ما يدفع به العدوان الإسرائيلي على مدنيي غزة ومحاولة الصهيوني المتطرف نتنياهو وحكومته تقويض الحقوق الفلسطينية وفرض واقع سياسي جديد تكون السيادة فيه لإسرائيل العنصرية.
ومن جديد مع نداء الشيخ الصياصنة: يا شعبنا الحبيب في سوريا. اليوم هو الثامن من آذار عام 1920 انعقد المؤتمر الأول وأعلن قيام سوريا والمبادئ الدستورية، تم تكريس سوريا على الخارطة ومع مطالبته بتجديد العهد لبناء الوطن بناء حراً ديمقراطيا لا سيطرة لأحد عليه ولا للتفرقة لا للتقسيم لا مكان للطائفية والإقليمية والحزبية.
إنها مبادرة، تحمل دلالتها وتطرح خيارتها وأسئلتها المشروعة وتعمل على معادلها اللغوي بوجهيه التوصيفي والتنظيري، مما يؤهلها لتغدو وثيقة لتفاهمات السورين، ولأنها بروحها الجدلية، تطلّ من تجربة الماضي بأخطائه وصوابه وتفتح أفقاً على المستقبل من دون ختمها بأي خلفية إيديولوجية مغلقة. كما أن صدورها بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة لثورة الحرية والكرامة وتجدد مطالبتها بالتغيير السياسي، له دلالته وأهميته كمؤشر على ضرورة الاختراق وتحريك الساكن وتبنيها الواضح للنموذج الديمقراطي/ الليبرالي، لأنه الخيار الوحيد القادر على لم الشمل والدفع نحو المستقبل المستقر والآمن.. وبعد هذا إن تسألني هل أعول على هذه الخطوة الرائدة؟ فأجيب: نعم لأنها تبدأ بجس نبض متواضع وحيي صادر عن مواطنين عاديين من أهل الثورة وبدون مؤتمرات وتمويل وضجيج وتهليل، وهي مفتوحة على الحوار الجاد للجميع.
المصدر: تلفزيون سوريا