محمد برو
قد يتوهم بعض المتابعين أن هناك مساحة في الفضاء السوري العام يمكن للمراوغ المتذاكي أو المناور أن يلعب فيها بهدوء، إن هو ابتعد عن مضمار السياسة والتدخل فيها بشكلٍ مباشر، وهذا يتنافى موضوعياً مع مذهب الأسد الصارم "من لم يكن معنا فهو علينا" والذي مارسه على مدى خمسين عاماً من دون تهاون، وبالتالي لا مكان في هذا الفضاء للرماديين أو الحياديين، حتى في بدايات تشكل هذا النظام، قبل أحداث عام "1980" حين كان يستخدم تعبير الحياد السلبي والحياد الإيجابي، كان يدلل بهما على القريب من الضفة الأخرى والأقرب، ولم تكن هذه الشريحة الواسعة التي توهمت الأمان في هذا اللاانحياز، لم تكن بمنجى من المراقبة المكثفة والتدقيق والتحقيق والاتهام المستمر.
وليس في مذهب الأسد السيادي، الذي عشنا عسفه على مدى خمسين عاماً أدنى حيز في الحياة الاجتماعية، أو الفنية أو الاقتصادية أو الدينية "وهو أخطرها" بمنأى عن السياسة والمزاحمة فيها، فكل تجمع أو قوة مهما صغر شأنها، هي ممارسة تقتطع حيزاً كبر أم صغر من الفضاء العام، وتنازع فيه آلهة السلطة المتمجدة قدسيتها، وتنذر في طور متخيل قد يحصل أو لا يحصل، بإمكانية التأثير على الشارع السوري، الذي لا يقبل النظام أدنى شريك له فيه.
في أواسط الثمانينات سعت مجموعة من المهتمين السوريين بفن التصوير الضوئي، لتأسيس جمعية تعنى بهذا الفن الجميل على سبيل الهواية وليس الحرفة، ويسمح قانون الجمعيات في سوريا بتأسيس مثل تلك الجمعيات أصلاً، ومع أن المتقدمين بالطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كانوا من شرائح اجتماعية متنوعة، ومعظمهم بعيد كل البعد عن الاهتمامات الحزبية، وكان على رأسهم يومئذ طبيب الأطفال الدكتور "إحسان الشيط" رحمه الله، إلا أن النظام رفض منحهم هذا الترخيص، بالرغم من تكرار طلبهم لسنوات متعددة، وهذا ينطبق على مئات الأمثلة التي لم يكن نظام الأسد يقبل بها أي وجود لكيان لا يتبع له سراً أو جهراً.
لكون سوريا بلداً ذا أكثرية مسلمة، كان لا بد من تكوين مجموعات دينية تقدم إسلاماً منزوع الدسم، إسلاماً على الطراز البوذي محتجزاً بين جدران المعبد وفي حيز السلام والخلاص الشخصي
فإذا عطفنا النظر إلى مجموعات اجتماعية أو دينية، ووجدناها تمارس نشاطها من دون منعٍ يذكر، وبرضى الأجهزة الأمنية ومباركتها، فهذا لا يعني أن الأجهزة الأمنية لا تجد فيها خطراً، بل تعمل على تدجينها وترسيخها جزءأً لا ينفصل عن مشروعها الكبير، في إدارة المشهد السوري بتفاصيله الكثيرة، وموطئة لسياساته.
ولكون سوريا بلداً ذا أكثرية مسلمة، كان لا بد من تكوين مجموعات دينية تقدم إسلاماً منزوع الدسم، إسلاماً على الطراز البوذي محتجزاً بين جدران المعبد وفي حيز السلام والخلاص الشخصي.
من هنا يمكننا النظر إلى العديد من الاتجاهات الإسلامية التي يشكل فيها النموذج الصوفي المسالم المطواع الدرويش، الذي يتقبل ظلم الحاكم بوصفه سوط الله المُشهر وقدره، وعقابه المعجّل للعصاة المبتعدين، النموذج الأكثر وضوحاً في الاستكانة والتسليم بما هو مقدّر له، وابتعاده كلياً عن الشأن العام، ممارسةً كان أو نقداً، ومن هنا سنجد أن تيار كفتارو والقبيسيات ومحمد سعيد رمضان البوطي وأديب حسون ووريثه أحمد حسون، ومحمود عكام، ومن شاكلهم وهم كثير، ما كان لهم أن ينجوا من الاجتثاث الذي مارسه نظام الأسد منذ توليه السلطة إلى يومنا هذا، لولا أنهم قبلوا تلك اللعبة من تبادل المصالح التي تصب محصلة قواها في سياسة حماية النظام وتمجيده ومنحه الشرعية، وضمان استقراره واستمراره لا غير.
لقد مارس النظام الأمني في سوريا هذه اللعبة بأناة وتنظيم مدروس، فهو في كل مرة يلزم هذه المجموعات بتنازل صغير، لا يمكنهم المساومة عليه حين يتذكرون أنه ثمن زهيد جداً، أمام بقائهم والحفاظ على مكاسبهم التي يتوهمونها، من استمرار الدعوة والحفاظ على الأذان وما إلى ذلك من مكاسب شكلية مفرغة من روحها وغايتها، وتستمر هذه الممارسة الابتزازية، وفي كل جولة يحصل النظام على تنازل جديد يضاف إلى حزمة مكاسبه ويحكم من خلاله قبضته أكثر على الفضاء العام، حتى يصل بهم إلى أن يكونوا ممجدين له وحماة لهيكل قداسته طوعاً، دون أن يطلب منهم ذلك، لمعرفتهم العميقة بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع إن هو اشتمّ منهم شبه رائحة لا تعجبه، ولا يفتأ هؤلاء المخدوعين أن يروّجوا ببراءة الأطفال السذج، أنهم بالأصل لزموا منهجا بعيدا عن السياسة وتفرغوا للحقل الدعوي والتربوي، ولهذا كان النظام ملزما بتركهم وشأنهم، وهم في حقيقة القول يدركون دون لبس أن هذا النظام ما كان له أن يسمح لهم ببنت شفة لولا أن هذا يمنحه حجة، ولو شكلية للزعم أنه راعي القيم والدين معزز التنوع وداعم حرية الفكر والاعتقاد.
ربما يبدأ بعضهم رحلة التنازلات هذه بنيّات حسنة، ظناً منه أنه يناور ويلاعب النظام، قاطعا عليه سبيل إلغائه من الخريطة الاجتماعية، وينتقل عبر مسار طويل من منهجية التبرير والتعليل إلى أن يكتشف لاحقا أنه راح ضحية سذاجته وأنه وقع في فخ لا منجاة له منه، وسيدفعه هذا إلى مزيد من كف الفاعلية الاجتماعية، والابتعاد بشكل طوعي عن أية ممارسة مؤثرة في الفضاء العام، ويكون قد شدّ إلى عنقه حبل إعدامه وصار معزولا، إلا عن دائرته الضيقة وهذه نهاية المطاف، وسينتهي هذا التيار بشكلٍ تلقائي بموت ممثله الفرد، ولن يبقى منه إلا ذكرى وجوده في ركب النظام، والأمثلة القريبة ما تزال حاضرة في ذاكرة السوريين.
المصدر: تلفزيون سوريا