محمد طاهر أوغلو
لا يبدو أنّ أحداً من السياسيين المخضرمين في دول العالم الديمقراطية يمتلك حظ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمثل المعارضة الموجودة حالياً، لا سيما وأن الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" بلغ من العمر عتياً في السلطة وإدارة بلد غير عادي مثل تركيا.
كل الأسباب كانت متوفرة لحدوث تغيير عبر انتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية، فالاقتصاد منهك والأزمات الداخلية والخارجية وفيرة، والحزب الحاكم قد قضى مدة تجاوزت العقدين في الحكم، وغيّر النظام من برلماني لرئاسي، ومع ذلك استطاع أن يطيح بكل تحالفات المعارضة في 2023.
تلك الهزيمة التي مني بها حزب الشعب الجمهوري وهو أكبر أحزاب المعارضة، إلى جانب حزب الجيد الذي يمثل التيار القومي المعتدل، وبقية الأحزاب الأربعة الصغيرة ضمن "تحالف الأمة"؛ كانت هزيمة لتحالف حلم به كمال كليجدار أوغلو، ولو تحقق لقلب تركيا 180 درجة في أعوام، لكنه كان حلماً بحكم المستحيل لأنه راهن على جميع أضداد لا يمكن أن تلتقي.
لا نريد عودة طويلة للوراء، بقدر ما أن المشهد الذي تمخض عن انتخابات أيار/مايو 2023 هو الذي يرسم خريطة الانتخابات المحلية في 31 آذار/مارس 2024.
أول وأهم انعكاس لذلك المشهد الذي لم يمض عليه عام بعد، هو انهيار ما كان يسمى "تحالف الأمة" الذي شكله كليجدار أوغلو مع ميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد، وضم معه 4 أحزاب؛ 3 منها محسوبة على التيار المحافظ، والرابع محافظ ليبرالي.
كانت خسارة كليتشدار أوغلو كافية لدفع أكشنار لمغادرة التحالف الذي حاولت الخروج عنها قبل الانتخابات أصلاً وعادت على مضض بعد ضغوط وهجوم تعرضت له آنذاك.
حتى بعدما استطاع حزب الشعب الجمهوري أن يغير رئيسه ويطيح بكليتشدار أوغلو أواخر 2023 لأول مرة في تاريخ الأحزب التركية، لم يكن ذلك كافياً بنظر أكشنار للعودة للتحالف من جديد مع الشعب الجمهوري.
أما بقية الأحزاب الصغيرة وهي المستفيد الوحيد بين المعارضة من خسارة انتخابات 2023، فإن المقاعد البرلمانية التي حصلت عليها بفضل كليجدار أوغلو كانت نصيباً وفيراً وكافياً من كعكعة تحالف الأمة، ولا يهمها الآن دعم مرشح حزب مختلف عنها تماماً مثل الشعب الجمهوري.
ولذلك تدخل المعارضة اليوم بجسم غير موحد، وأقصد هنا المعارضة التي استطاعت أن تحصل على أصوات أكثر من أصوات تحالف الجمهور الحاكم في مدينتي إسطنبول وأنقرة على وجه الخصوص بانتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية.
وبالطبع هذا التقييم لا يعني الحكم على حزب الشعب الجمهوري بخسارة بلدية إسطنبول من الآن، بل هو تقييم للحالة الهزيلة التي تبدو فيها المعارضة في نظر الناخب العادي وهي تدخل انتخابات مهمة ولو كانت محلية، بعد خسارة صعبة قبل أشهر، ومن الممكن أن تلعب نتيجة هذه الانتخابات في تصوّر الوضع الذي سيكون حينما تحين انتخابات 2025 الرئاسية والبرلمانية.
خطأ الشعب الجمهوري
لا يزال حزب الشعب الجمهوري يدفع فاتورة أخطاء كليجدار أوغلو رغم الإطاحة به، وما زاد الطين بلة إن صح التعبير، هو أن الزعيم الجديد للحزب أوزغور أوزال لا يتمتع بتلك الشخصية القيادية على الأقل مثل أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ناهيك عن مقارنته بزعيم مثل أردوغان أو دولت باهجلي أو ميرال أكشنار.
زد على ذلك، أن أوزغور أوزال حينما فقد الأمل بالتحالف مع أكشنار زعيمة حزب الجيد من جيد، وقد يشكلان معاً قوة صلبة في جذب الناخب المعارض، لجأ للتفاوض مع حزب "المساواة الشعبية والديمقراطية" الذي يمثل غالبية الشريحة الكردية، وهو نفسه حزب "الشعوب الديمقراطي" سابقاً.
وهذا النوع من التحالف يسبب حساسية لمجمل القوميين واليمين، لأنهم ينظرون للشعوب الديمقراطي وامتداداته على أنها أداة سياسية لحزب العمال الكردستاني الانفصالي والمصنف إرهابياً، وبالتالي فهذا خطأ استراتيجي يقع به الشعب الجمهوري كل مرة دون تراجع.
نعم الانتخابات تحتاج في لحظة ما لتحالفات واتفاقات، لكن حتى في التحالف هناك هوية حزبية ومبادئ وقيم وأسس لدى كل حزب، وبالتالي لا يمكن للناخب أن يُستغفل بحجة تحقيق مصلحة حتى ولو كانت الوصول للحكم، ولذلك وجدنا أن أردوغان كسب المعركة في 2023 رغم أن المعارضة بدت من الظاهر متحالفة على اختلاف هوياتها وأسسها.
هذا النوع من التحالفات يمكن وصفه بأنه "هجين" ونفعي ولذلك لا يمكن أن يدوم، ولا يمكن بالدرجة الأولى أن ينجح بإقناع الناخبين بالتخلي عن القيم والمبادئ الحزبية لا سيما حينما تكون متعلقة بمسائل الأمن القومي ومكافحة الإرهاب.
كيف وضع التحالف الحاكم؟
نجح تحالف الجمهور الحاكم في تقديم صورة لا ينكرها أحد، وهي الحفاظ على التحالف بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، اللذين يمثلان عمودي التحالف، لكنه أخفق في الحفاظ على الأحزاب الصغيرة لا سيما حزب "الرفاه مجدداً" بقيادة محمد فاتح أربكان، والذي حصل على نحو 3% في الانتخابات الأخيرة، وأثبت أن لديه شعبية معتبرة.
استطاع العدالة والتنمية والحركة القومية، الاتفاق على صيغة معينة تجعلهما يتعاونان في 30 ولاية من خلال دعم مرشح واحد في الانتخابات المحلية، لا سيما إسطنبول، وهذا التماسك يعتبر مؤشر قوة مقارنة بالوضع الذي عليه المعارضة أو الشعب الجمهوري الذي يرأس بلدية إسطنبول الآن.
جانب آخر يتمتع به العدالة والتنمية، وهو ترشيح اسم قوي مثل مراد كوم، وهو شخصية بيروقراطية، استطاع صنع سيرة مهنية جيدة خلال توليه منصب وزير البيئة والتطوير العمراني، كما أنه كان على مسافة من الصراعات الداخلية التي تكون عادة داخل الأحزاب، وترك منصبه، وصورته حسنة لدى الناس إلى درجة كبيرة.
إضافة لذلك، إمام أوغلو كرئيس بلدية منذ 5 سنوات وهي مدة زمنية كافية لاستنزاف طاقة أي شخص في منصب مثل هذا، كما أنه لم ينفذ طوال تلك السنوات مشروعاً ضخماً يمكن أن يكون ورقة بيده تؤهله للإمساك بزمام المبادرة مجدداً، بل على العكس صدرت عنه عدة أخطاء استغلها الحزب الحاكم ووسائل الإعلام بشكل كبير جداً، وخلقت انطباعاً سلبياً عنه بأذهان الناس.
ماذا عن السوريين وأوزداغ؟
بالطبع لا يمكن أن تمر هذه الانتخابات دون تصعيد قضية السوريين والأجانب واللاجئين، وأنهم خطر على البلد ويجب ترحيلهم، وفي هذا السياق سنشهد العديد من الوعود المثيرة للاشمئزاز والضحك معاً، مثل قطع المساعدات أو رفع تسعيرة استهلاك المياه والكهرباء للأجانب، أو ربما محاربة بطاطس سمروت وديربي.
وبالطبع مثل هذه الوعود ستكون صادرة عن التيار الذي يمثله أو يتصدره أوميت أوزداغ اليميني المتطرف وزعيم حزب "ظفر" القائم على سياسة العنصرية ضد الأجانب والسوريين/العرب خصوصاً، وقد تسبب بأضرار كبيرة للاقتصاد التركي والقطاع السياحي بسبب هذا الخطاب.
أخيراً، لا يزال هناك شهران على موعد الانتخابات المحلية في 31 آذار/مارس، وقد تحدث العديد من التغيرات والتطورات، وهي طبيعة السياسة الداخلية في شتى البلدان وبالأخص تركيا.
المصدر: تلفزيون سوريا