صحافة

ردّ عربي واهن على عدوان إسرائيلي سافر

الاثنين, 6 نوفمبر - 2023

لؤي صافي


يقف العالم مذهولا أمام حجم الموت والدمار الذي تخلّفه آلة القتل الإسرائيلية المدعومة ماليا ودبلوماسيا وسياسيا من دول التحالف الغربي. بعد مرور قرابة شهر على مشاهد العدوان الوحشي الذي يقتل يوميا مئات المدنيين ويهدم آلاف المنازل، لم يتحرّك العالم لوقف المجازر، ولم تتحرّك الدول العربية للجم الجنون الإسرائيلي، ولم نسمع سوى دعوات خجولة لم تصل إلى صانع القرار الإسرائيلي ولم تلق آذانا صاغية. تجلّت الاحتجاجات الغاضبة الوحيدة في تظاهرات شعبية انطلقت من بعض العواصم العربية، وتردّدت أصداؤها في مسيراتٍ عمّت مدن الشرق والغرب. ما زاد من حدّة الألم الذي أججته مشاهد القتل والدمار في غزّة، تصريحاتٌ أدلى بها رؤساء عرب بدت متفهمةً أهداف حملة الدمار الإسرائيلية، كتلك التي سمعناها من الرئيس المصري الذي اقترح تهجير المدنيين من غزّة إلى صحراء النقب، بدلا من إبعادهم إلى صحراء سيناء، إلى حين انتهاء الدولة الصهيونية من تدمير غزة "وتصفية المقاومة الفلسطينية".

الموقف الرسمي العربي تجاه مأساة غزّة غير مستغرب، خصوصا من دول شكلت يوما طوق مواجهة أمام الكيان الصهيوني، بعد عقود من التغيّرات التي مرّت بها هذه الدول وانتهت إلى تغوّل الدولة الأمنية فيها على المجتمع المدني، سعيا إلى كمّ الأفواه الحرّة الداعية إلى مجتمع العدالة والحقوق، وتحوّلت في أثنائها مهام الجيوش من مواجهة العدو الخارجي إلى قمع المطالب الشعبية الداعية إلى إنهاء الفساد المستشري وبناء دولة المساءلة والقانون. ومع تتابع اتفاقيات السلام مع دولة الاحتلال، تحوّلت جيوش عربية من مهامّ حماية الوطن إلى عمليات قمع المواطنين، ومنافسة أصحاب الأعمال، كما تحويل المجالس النيابية من منابر لإبراز حاجات المواطنين والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم إلى غرف لترويج صوت السلطة وتبرير تجاوزاتها وزلّاتها. من المؤسف القول إن الموقف العربي الواهن يعكس حالة الانقسامات والتشرذم العربية، بعد أن عجزت الحكومات العربية عن بناء مشاريع تعاون وشراكة بيْنية، واكتفت بمؤتمرات جامعة الدول العربية وجهودها الخطابية، التي لم تتجاوز خلال نصف قرن مرحلة إصدار بياناتٍ ختاميةٍ بنكهة خطابية، ولم تقدّم عملا عربيا مشتركا أو تحقق شراكة سياسية أو اقتصادية أو صناعية لبناء القدرات والتعاطي مع التحدّيات الدولية التي تواجه الشعوب العربية.

    على الشارع العربي، بمثقفيه وتجّاره وإدارييه وإعلامييه ومربّيه، تحمّل مسؤولياته واستشعار دوره في تكريس الضعف الذي أصاب حكوماته وعدم الاكتفاء بتحميل النظام الرسمي وحده مسؤوليات ما يجري

نحن، إذاً، أمام مشهد عربي مؤلم يظهر تحرّكا في الاتجاه المعاكس لحركة التنسيق والتعاون، نحو مزيد من التشظي والانقسام والتباعد بين أصحاب الهم المشترك، ومزيد من التطبيع مع الدولة العنصرية القابعة على صدر الشعب الفلسطيني الأبي، والمهدّدة لأمن المجتمعات العربية وقدرتها على التحرّر وبناء قواها الذاتية. وهذا التناقض بين المصالح العربية المشتركة والتحالفات السياسية الخارجية من مظاهر عجز المنظومة العربية عن اتخاذ مواقف عملية مشتركة، يمكن أن تساهم في الحد من التوسع المستمر للدولة العبرية، والتصدي لجرائم الحرب التي تمارسها كل يوم على الأرض الفلسطينية.

من السهل طبعا عند تحليل أسباب العجز العربي الاكتفاء بوضع المسؤولية كاملة على القيادات الرسمية العربية، وإخراج الشارع العربي الواسع الذي تجاوز عدد أفراده هذا العام 460 مليونا، وهو عدد يكافئ سكان الولايات المتحدة وروسيا مجتمعين. نعم، على الشارع العربي، بمثقفيه وتجّاره وإدارييه وإعلامييه ومربّيه، تحمّل مسؤولياته واستشعار دوره في تكريس الضعف الذي أصاب حكوماته وعدم الاكتفاء بتحميل النظام الرسمي وحده مسؤوليات ما يجري. فالقيادات الرسمية التي تحكُم دول المواجهة لم تأتِ إلى دائرة الحكم من خارج الوطن، بل تلقّت قيمها وفلسفة حياتها من محيطها العربي من خلال الأسرة والمدرسة والإعلام، وتلقّت توجيهاتها السلوكية ورؤيتها الوجودية من الدروس والمواعظ التي تلتقطها أسبوعيا من منابرها الثقافية والدينية.

السؤال الذي يجب أن يطرح هنا: لماذا عجز المجتمع العربي عن توليد حراك اجتماعي يدفع الشباب إلى البحث العلمي والإنتاج الصناعي والمساهمة في بناء المؤسّسات المجتمعية التي تحوّل القيم الإنسانية، قيم التعاون والتكافل والإبداع والدفاع عن الحقوق ومواجهة الظلم والفساد، إلى حالة اجتماعية معيشة؟ ولماذا تحوّلت تركيا، على سبيل المثال، خلال عقدين، من دولة عاجزة عن سداد ديونها المتراكمة للبنك الدولي إلى دولة صناعية وتجارية تنافس في قدراتها الإنتاجية الدول الصناعية المتقدّمة، لتنضمّ في وفترة وجيزة إلى قائمة الدول العشر الأكثر ثراء، في حين تعجز الدول العربية عن تحفيز الإنتاج والابتكار، وتكتفي بالاعتماد الكامل على المنتجات المستوردة والأفكار والخطط المترجمة؟ يتحمّل النظام السياسي الرسمي المسؤولية الأولى في الإجابة عن هذا السؤال، ولكن رب الأسرة والمربّي والمعلم والأستاذ الجامعي والكاتب والإعلامي والواعظ والفنان يتحمّلون مسؤولية أساسية في إعداد أجيال من المثقفين والسياسيين لا يرون إلا المجد الشخصي والمصلحة الفردية في كل عملٍ يمارسونه أو مهمّة يرتبطون بها، ولو كان هذا العمل خدمة الوطن وصون مصالح أبنائه.

نعم ما يجري في غزّة اليوم مأساة بكل ما للكلمة من معنى. ولكن لنكن صادقين مع أنفسنا، ولنقل بصراحة إن المأساة ليست مأساة غزّاوية أو فلسطينية وحسب، ولكنها عربية في المقام الأول، فلولا الوهن العربي لما تمكّنت القيادة الصهيونية من تجاهل مواقف القادة العرب في مؤتمر السلام الذي عقد أخيرا في القاهرة، ودعا إلى وقف القصف والتدمير في غزّة. ولولا التراخي العربي لما تجاهل الغرب الثقل السكاني للمجتمعات العربية التي تقارب خمسمئة مليونا، والتي تنتشر على مساحةٍ تزيد على مساحة الولايات المتحدة أو مساحة الصين. وهذا يقودنا إلى السؤال الأصعب: هل ستدفع صدمة غزّة الأنظمة العربية والشارع العربي إلى استشعار مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والوجودية، وإعادة النظر في خططتها وأولوياتها؟ وبتعبير مرادف يمكن أن نسأل: هل ستساهم المأساة الفلسطينية في تحريك الركود العربي، وتدفع الشعوب العربية لاستشعار مسؤولياتها في الارتقاء بالحياة العامة وبناء مجتمعاتٍ منتجة ومبدعة وقوية، أم أن الغضب والتظاهر سينتهيان بالعودة مجدّدا إلى الاهتمامات الفردية والمشاريع الخاصة وتجاهل المسؤوليات العامة والجهود الوطنية المشتركة للارتقاء بالمجتمع وحماية كرامة الشعوب ومستقبل الأجيال القادمة؟


المصدر: العربي الجديد

الوسوم :