صحافة

انتفاضة السويداء إلى أين؟

الاثنين, 2 أكتوبر - 2023

فايز القنطار


في شهرها الثاني، لا تزال السويداء، كما يقول الشاعر الفلسطيني مرزوق الحلبي، تبثّ دروسها في بثّ مباشر لأهلها ولأهل سوريا ولنا وللعروبة، دروسها التي بدأها سلطان الأطرش. عروبة كما في الأمنية، كما في الحلم، من أوّل حرف إلى آخر حرف، من أوّل اسم في المعجم إلى آخر اسم، من أوّل التاريخ إلى آخره، لا تزال السويداء ساهرة في ساحة الكرامة نيابة عن جميع الثائرين في ربيع العرب.

السويداء سوريا الطالعة من تحت الأنقاض والمقاومة للطواغيت المُقيمين والوافدين من خلف البحار، السويداء تحيي ذكرى المهجّرين من وطنهم والمنسيين في الأقبية والمغيّبين.

السويداء رواية مُشرقة على مرمى أمنية يكتبها الناس المخلصون لأمّتهم، الحريصون على كراماتهم وكرامة المقهورين جميعًا في سوريا وفي كل بقاع الأرض.

خطاب بسعة الوطن العربيّ وأمانيه وتطلّعاته، بتاريخه وتجاربه ومآسيه، يكتبه أناس في منتهى البساطة جاؤوا من أريافهم وبيوتهم، ليضعوا البديل لكلّ ما كان من خيبات وقهر وتقتيل وليفرضوا المعنى المغيّب.

جاءت انتفاضة السويداء في زمن صعب، جاءت كنسمة صيف رطبة تهب على الغارق في عرق القيظ، جاءت لتعيد السيرة الأولى لثورة شعب تجرأ على طلب الحرية.

لا تزال السويداء تلقننا درسها الوطني، تعلمنا أن سلطان ورفاقه لا يزالون على ظهور الخيل، تعلمنا كيف ترد لنا الأمل، وتعيد ماء الوجه لأمة بأسرها.

تعلمنا السويداء أن حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، فمطالب الشعب السوري بالحرية ودولة المواطنة لا تزال حية في القلوب وفي العقول، بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة من القتل والتدمير والتهجير.

وضعت انتفاضة السويداء النظام الكيماوي في مأزق صعب، لا يعرف كيف يواجهها. فاستخدام القوة، بعد أن جرب كل أشكال السلاح، لن يعيد السويداء إلى بيت الطاعة، وفي ذلك مجازفة قد تشكل نهاية الحقبة الأسدية، لعدم توفر الغطاء الروسي الغارق في المستنقع الأوكراني، وقد تدفع السوريين إلى ثورة عارمة شاملة تعصف ببقايا النظام. أو قد تحفز "التحالف الدولي" لإخراج الجنوب برمته عن سلطة آل الأسد، لتضاف سلطة خامسة لسلطات الأمر الواقع في سوريا. ألم يصرح المقبور حافظ في ثمانينيات القرن الماضي، عندما سأله أحد الصحفيين عن مصير سوريا بعد انتهاء حقبة الأسد، ألم يصرح قائلا: لن تكون هناك سوريا!.

لجأ الوريث إلى محاولة استخدام الأعوان في شق الصفوف ومحاولة ممارسة "القتل الداخلي" كما يقول أحد خبرائه الأمنيين "الاستراتيجيين" تركي الحسن، لأنه أقل كلفة من أن تقوم "الدولة الأسدية" بالقتل. هذا العميد الأمني حاكم السويداء السابق في تسعينيات القرن الماضي، العميد الذي لا يتحدث إلا عن القتل، قتل الدولة أو القتل الداخلي، اضطر المقبور حافظ الأسد لإقالته بعد شكوى الملك حسين من فضائح التهريب التي قام بها نحو الأردن.

فشلت كل الوساطات والتدخلات لاحتواء احتجاجات السويداء، التي حسمت أمرها وطهرت مدنها وقراها من اللوثة الأسدية ورموزها وصورها وكل استطالاتها، وساطات لم ولن يكتب لها النجاح.

أدرك أهل السويداء، كبقية السوريين، أن سوريا لن تتعافى وتعود إلى سكة الحياة بوجود هذا النظام، بعد أن أوصلها إلى التشظي والانقسام، بدأ ببيع الثروات والمرافق الاستراتيجية إلى حماته من الروس والإيرانيين، وفرط بالاستقلال الوطني ووضع البلاد تحت الاحتلالات المتعددة الجنسيات

يعرف أهل السويداء جيدا الثمن الذي دفع من أجل تحقيق الاستقلال الوطني في مقارعة الاستعمار. دفعت سوريا أكثر من 6 آلاف شهيد على دروب الحرية في معارك، بدأت في معركة المزرعة عام 1925، التي قارنها الشهيد عبد الرحمن الشهبندر بمعركة اليرموك، وانتهت إلى الكفاح السلمي بالاحتجاجات والإضرابات التي توجت بإنجاز الاستقلال الوطني. في حين دفع السوريون أكثر من مليون شهيد وملايين المهجرين وتدمير 60% من مدنهم وبلداتهم في مواجهة الاحتلال الأسدي، ولا يزال أمامهم شوطٌ طويلٌ لإنجاز استقلالهم الثاني وتحرير بلادهم من الوجود الأجنبي الذي جاء لحماية الطاغية.

شعر طاغية دمشق بالرعب من انتشار أحداث السويداء إلى مناطق أخرى. فانبرت أبواقه الطائفية لكيل الاتهامات للسويداء وأهلها، تتهم انتفاضة السويداء بالعمالة لإسرائيل تارة، وبالانفصال وإقامة دولة درزية. تارة أخرى، في محاولة بائسة لعزل السويداء عن محيطها الوطني.

هذه الأسطوانة المشروخة، التي طالما صدقها بعضهم، لم يعد يصدقها الشعب السوري، فهو يعرف أن العميل الحقيقي هو من سلم الجولان بلا حرب ولا ضرب، بأسلحتها وتحصيناتها التي كان يمكن أن تقاوم سنوات من دون أن تسقط.

العميل الحقيقي هو من تضربه إسرائيل بانتظام، دون أن يرد الإهانات المتلاحقة، وتعود الذل والهوان والركوع، فقط يستأسد على السوريين العزل.

العميل الحقيقي هو من خان الأمانة ووجه السلاح إلى صدور السوريين، بدلا من توجيهه إلى الأعداء.

هذا هو عميل إسرائيل الحقيقي، وليس بنو معروف الذين شكلت نسبة شهدائهم في المواجهات معها 11% من شهداء سوريا، في حين أن نسبتهم إلى عدد السكان هي 3%, استنادا إلى إحصاءات وزارة الدفاع.

أما بخصوص الانفصال وإقامة دويلة درزية، فبنو معروف أسقطوا المحاولات الاستعمارية في إقامة دويلة لهم، وعملوا جنبا إلى جنب ويدا بيد مع الوطنيين السوريين على الاندماج في بيئتهم العربية الإسلامية، وبناء دولة المواطنة والحداثة.

الطائفي الحقيقي هو من اغتصب السلطة في غفلة من التاريخ وحولها إلى سلطة طائفية من رأسها إلى أخمص قدميها. وسخر كل إمكانات الدولة السورية لآلته القمعية، وعندما حطمها الشعب، استدعى الجيوش والميليشيات، ورهن البلاد وثرواتها ومرافقها الاستراتيجية، وقامر بمصير البلاد ودفعها إلى التشظي، من أجل البقاء في الكرسي.

لم تعد الأكاذيب مجدية، فالسوريون يعرفون الحقيقة، يعرفون أن أهل السويداء لا ينتظرون شهادة في الوطنية من أحد، فالوطنية السورية وانتماؤهم العروبي هي في صلب عقيدتهم. فهم يحملون راية الحرية والكرامة، دافعهم الإنسانية الكامنة في الذات المقهورة من قبل طغمة باغية، حولت سوريا العظيمة إلى جحيم لا يضاهيه أي جحيم.

شكلت انتفاضة السويداء كابوسا حقيقيا لآل الأسد، الخوف من أن تتحول إلى صاعق يفجر برميل البارود السوري، حيث تتوفر جميع الشروط لقيامة سوريا التي لن تبقي ولن تذر. وهذا يفسر الاستنفار الأمني في مناطق سيطرة النظام خوفا من غضب السوريين الذين عرفوا ما لم يعرفه شعب من أشكال الذل والمهانة وازدراء الكرامة الإنسانية على يد هذه العصابات المارقة المنفلتة من الأخلاق والقيم الإنسانية.

    إنها الفرصة التاريخية المناسبة ليأخذ الشعب السوري مصيره بيده ويستعيد قراره الوطني من أيدي الغرباء، ويضع البلاد على سكة الحياة وإعادة البناء

تشكل هذه المرحلة فرصة تاريخية أمام الشعب السوري، في الشتات وفي جميع مناطق الوطن، أن يوحد الكلمة ويقف وقفة رجل واحد، مستخدما أساليب الكفاح السلمية من إضراب واعتصام وعصيان مدني، لغاية رحيل هذا النظام وتطبيق القرار الدولي 2254 والقرارات ذات الصلة، والانتقال إلى دولة المواطنة دولة القانون والدستور. هذه الوقفة الموحدة للشعب السوري، تحقق هدفين أساسيين:

1 – استعادة وحدة الشعب الذي عمل النظام الأسدي على تقسيمه، وفي ذلك استعادةٌ للقرار الوطني وتقرير مستقبل البلاد، وعدم التسليم بأن يكون ذلك حكرا على الدول المتحكمة بالوضع السوري، فالكلمة الفصل ستكون للشعب السوري الموحد الذي يلتف حول برنامج وطني واضح المعالم.

2 – سيؤدي هذا الكفاح من أجل التغيير (الإضرابات والعصيان المدني) إلى الضغط على الحلقة الضيقة التي لا يزال يستند إليها النظام، ويدفعها إلى مزيد من الوهن والتفكك بفعل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي لم تعد تطاق، ربما تجد مخرجا لمأزقها بحمل النظام على الرحيل، من دون إهراق مزيدٍ من الدماء، وبذلك يتحقق الانتقال السلمي الذي يفتح الآفاق نحو عودة سوريا إلى الحياة.

إنها الفرصة التاريخية المناسبة ليأخذ الشعب السوري مصيره بيده ويستعيد قراره الوطني من أيدي الغرباء، ويضع البلاد على سكة الحياة وإعادة البناء، بناء ما دمرته القدم الهمجية، بناء سوريا الحداثة والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

طلعة أهل السويداء على المشهد السوري، كطلعة نجمة قطبية، تضيء الدروب تبعث الأمل بالخلاص، من لوثة الأسدية التي عبثت بمصير شعب، وقامرت بوطن جميل اسمه سوريا.

الحرية على الأبواب وأهل السويداء على طريق الحرية، يصنعون المجد، يكتبون الفصل الأخير من كفاح الشعب السوري في مواجهة الطغيان، ويكتبون التاريخ في قيامة قريبة لسوريا بعون الله لإنجاز الاستقلال الثاني.


المصدر: تلفزيون سوريا

الوسوم :