صحافة

ما بعد دير الزور

الخميس, 7 سبتمبر - 2023

صبا مدور


كل شيء في معارك دير الزور، يجعل منها مقدمة لما بعدها من تطورات مهمة وربما خطيرة في المشهد السوري، فهي أكبر من مجرد مواجهات محلية محدودة، سواء بالنسبة لأطرافها التي تتجاوز المتحاربين إلى النظام وميليشياته وقوى إقليمية ودولية مستفيدة أو متضررة، أو ما يرتبط بالمنطقة التي تجري فيها المعارك، وقد كانت هي ذاتها خلال الأسابيع الماضية مثار تكهنات وتحليلات ومعلومات عن مشروع للسيطرة عليها من خلال قوى مسلحة من أبناء العشائر المحلية ومن عناصر قسد يغلقون طريق الامدادات الإيراني على الحدود مع العراق، فإذا بالطرفين المفترضين لتنفيذ المشروع الامريكي يتقاتلان في هذا الوقت بالذات، فيما تكتفي واشنطن بدعوة متأخرة للحوار والتوقف عن حل الخلاف من خلال السلاح.

كشفت المعارك عن احتقان كبير بين سكان المنطقة من قسد ومن يمثلها بينهم ، وكشفت أيضا أن جزءا غير يسير من مقاتلي قسد هم من أبناء نفس العشائر التي تحاربها اليوم، انضموا لها في أوقات مختلفة بدافع الرغبة في العائد المالي، بعدما انعدمت خيارات الرزق والعمل في هذه المناطق، وكشفت ثالثا أن الوضع في سوريا ليس هادئا كما ظل البعض يردد ويأمل ليبرر التطبيع مع نظام بشار، وأن عامين من الجمود ظلت تخبئ وضعا ملتهبا وملتبسا وأزمة كبرى لم يبذل أحد أي جهد لحلها، فكانت معارك دير الزور إحدى تجليات خطورتها ونيرانها دائمة الاشتعال وإن خف لهيبها قليلا.

ولا شك أن وجود قسد وسيطرتها على نحو ثلث مساحة سوريا يمثل نمطاً شاذاً ونتيجة مباشرة للفشل في حل الأزمة السورية بطريقة عادلة وجدية، وعن تداخل إقليمي ودولي زاد في حدة الأزمة، وتراوح بين دعم النظام، أو معاداته دون اسقاطه، على أن يجري خلق أمر واقع جيوسياسي في سوريا، كانت قسد من بين آثاره وأدواته تماما كحال الوجود الإيراني، سواء بصوره الميليشياوية أو الطائفية أو الاقتصادية.

نتج عن المعارك في دير الزور هزيمة لقسد في مناطق مختلفة أمام العشائر المحلية، وفي بعض الحالات سيطر مقاتلو العشائر على مواقع عسكرية مشتركة بين النظام وقسد، لكن تلك المناطق في شرق الفرات متداخلة بشكل يدعو أحيانا للاستغراب، حيث تشهد تحالفات موضعية، وصفقات بين من يفترض أنهما عَدوان، وخصومات بين من ينبغي أن يكونا حليفين، ووسط ذلك، عاش سكان تلك المناطق الموبوءة بالمعاناة والإهمال طيلة عقود من حكم الأسد، حتى علم أهلها أنهم يقيمون وسط مناطق تنافس إقليمي ودولي على الموارد النفطية والغازية والموقع الاستراتيجي.


وفضلا عن السياق الميداني المعقد، فإن السياق السياسي بدوره يبدو أكثر تعقيدا، فقسد حظيت بدعم أمريكي سمح لها بالتوسع على حساب مناطق أغلبية عربية، مما مثل سوء تقدير فادحا من الولايات المتحدة التي ربما لم تجد بين القبائل العربية في البادية السورية من تعتبره مواليا لها يسير بأمرها، فاعتبرت قسد ممثلها الوحيد، وفات عليها أن سوء التدبير والجهل بالطباع والناس والجغرافيا سيجر عليها فشلا وكرها وضياعا للأموال والفرص وربما الأرواح أيضا.

فات على الأميركيين أن سوء تدبيرهم في العراق وتحالفهم مع شخصيات وقوى كريهة ومرفوضة اجتماعيا قد ارتد عليها عدة مرات، ومع ذلك، فإن بيرت ماكغورك الممثل الشخصي للرئيس الأميركي، ما زال يمارس نفس الأخطاء التي ارتكبها من قبل دونالد رامسفيلد وجوقته، وإن كانت خسارة أمريكا لا تعنينا، فالمشكلة أنها لن تكون وحدها من يدفع الثمن بل سوريا وشعبها أيضا.

اليوم، بدأت الولايات المتحدة وساطة لوقف القتال قبل ان يخرج الأمر عن سيطرتها، لكن طرفاً آخر يراقب عن كثب ليتحين فرصة الانقضاض على المصالح الأمريكية هناك، والدخول كقوة مؤثرة على الحدود مع العراق، وأقصد بذلك إيران، فهي قد تكون مستعدة لعرض مساندتها العسكرية الفورية للعشائر العربية شرقي الفرات، في مواجهة قسد التي عادت لتجميع صفوفها واستعادة المبادرة العسكرية، مقابل وجود إيراني في هذه المناطق.

سيكون معقدا على أهلنا شرق سوريا أن يختاروا بين قسد التي قتلت من أبنائهم، ومستعدة لقتل المزيد، وبين الميليشيات الإيرانية التي يمكن ان تفعل الأمر ذاته. ويزيد في تعقيد الأمر أن تركيا التي يهمها كثيرا هزيمة قسد، لن يمكنها تقديم دعم فوري لمقاتلي العشائر، بسبب غياب مناطق التماس الجغرافية، والحاجة لوقت غير متوافر أصلا، من اجل انتظار الدعم واستيعابه، وهو ما يمنح الإيرانيين فرصة ثمينة، لن يحرم طهران منها، سوى مبادرة سريعة من الأمريكيين تحترم الوقائع على الأرض وعشائر المنطقة، أو دعم يصل الى مقاتلي العشائر من أهلنا في مناطق سوريا الأخرى، لاسيما من الشمال، ومن إدلب، حتى يفرضوا شروطهم على الجميع، دون حاجة، لا للأمريكيين ولا للإيرانيين، وهو ما سيكون المنجز الوطني الأهم للثوار في سوريا منذ عدة سنوات.


المصدر: المدن