فراس رضوان أوغلو
زادت في الآونة الأخيرة تصريحات المسؤولين الأتراك حول عدم إمكانية، بل استحالة انسحاب القوات التركية من الشمال السوري، بل وصفوها بأنها غير واقعية وإصرار النظام في دمشق على الانسحاب بأنه كلام لا معنى له في ظل الظروف القائمة الآن.
لا يمكن فصل التصريحات المتتالية من قبل المسؤولين الأتراك ابتداءً من الرئيس التركي وصولاً لغيره دون النظر إلى التباعد الملاحظ في الآونة الأخيرة بين تركيا وروسيا، وهذا الأمر ظهر جلياً بعد تسليم تركيا قادة كتيبة أزوف المحتجزين لديها إلى أوكرانيا الأمر الذي أغضب روسيا لأنها كانت قد صنفتهم على قائمة الإرهابيين لديها، ولعل إصرار تركيا على أنها منفتحة للتفاوض مع دمشق مع تحييد ملف الانسحاب للجيش التركي من الشمال وكأنه رسالة لروسيا أكثر منه لدمشق، لأن هذا الانسحاب في حال حدوثه (في حال حصول اتفاق ما) لن يملأ مكانه سوى القوات الروسية التي تسعى لزيادة وجودها على الأرض السورية من أجل تطويق ومحاصرة وتحجيم القوات الأميركية هناك وزيادة بسط سيطرتها أكثر وأكثر في البادية السورية براً وجواً، والتي تعادل مساحتها قرابة 40 بالمئة من مساحة الأراضي السورية والسيطرة على حقلي النفط العمر وكونيكو من الأميركيين وحلفائهم وهذا الأمر يتطلب تفاهمات عسكرية بين دمشق وأنقرة وفق الرؤية الروسية، وفي حال تم ذلك ستكون بمثابة هدية كبيرة جداً لروسيا التي بدأت تقلق من التحركات الأميركية الآخذة بالتوسع في سوريا، والسؤال هل تركيا قادرة على إعطاء مثل هذه الهدية للروس وتحمل تبعات هذا الأمر من قبل الإدارة الأميركية؟
الكل يعلم بأن ما يقلق تركيا ويهدد وحدة أراضيها هو حزب العمال الكردستاني بمسمياته المختلفة أو أماكن تواجده، ومنبع القلق بالنسبة لتركيا ما يحصل في الشمال الشرقي في سوريا وما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من تعزيز لقواتها ووجودها هناك، وزيادة تسليح قسد الذراع العسكرية الذي تستخدمه في ساحة الميدان، وإعلانها بشكل صريح بأنها سوف تتصدى وتمنع أي أحد (تركيا، روسيا) من أي محاولة هجوم على تلك القوات، ولكنها وفي الوقت نفسه ليست مع فكرة الانسحاب التركي من المناطق التي دخلتها قواتها العسكرية والهدف معروف وهو منع دخول الروس والنظام لتلك المناطق، وزيادة رقعة نفوذهما علاوة على أن الولايات المتحدة الأميركية تهدف لقطع طريق دمشق بغداد على اعتبار أن هذا الخط يوفر ويسهل الدعم الإيراني للنظام (وما يرتبط هذا الأمر من تفاهمات أميركية إسرائيلية)، وأيضاً يسهم في إبقاء الوضع الميداني المقسم في سوريا على ما هو عليه، وربما زيادته بكانتون أخر ما اصطلح عليه سوريا الحرة في المناطق الجنوبية من سوريا، هذا الأمر يزداد صعوبة أو سهولة حسب بقاء القوات التركية وبقاء قوات المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا كعبء كبير على روسيا، ولكن كيف يستوي هذا الأمر والأميركيون يتعاونون مع تنظيم تصنفه تركيا إرهابياً، ولعل تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل جولته للمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة بأن قوات الجيش التركي تحارب الإرهاب هناك رسالة للأميركيين قبل الروس، لأنه لم يبق سوى قسد بعد انتهاء وجود تنظيم داعش من تلك المنطقة.
لا شك أن صانع القرار في أنقرة يدرك الأهمية الاستراتيجية للوجود العسكري التركي في الشمال السوري، فمسألة التناحر الروسي الأميركي لم تعد مرتبطة في عين المنطقة نفسها، بل أصبحت الأرض السورية ساحة ضغط استراتيجي للأميركيين على الروس والعكس صحيح، كما الحال في ليبيا وغيرها، وأيضاً الوجود العسكري التركي نقطة ضغط تركية على الأطراف الأخرى تستغلها تركيا في حسابات متعددة إضافة للحسابات التركية نفسها من تخوف تقسيم سوريا وولادة كانتون كردي، ولذلك وجودها يمنع هذا الأمر الذي ربما لا يعارض المصالح الأميركية في سوريا، ولكن ماذا تستطيع أن تفعل تلك القوات التركية في المناطق الجنوبية في سوريا أو حتى الشرقية منها في حال دعمت واشنطن ما يًسمى كانتون سوريا الحرة، وخاصة أن استمرارية تدفق المخدرات من سوريا نحو الأردن وغيرها قد يجعل تلك الدول تساعد في نشأت هذا الكانتون كحزام واقي.
الانسحاب التركي حالياً ليس واقعياً بشكل عملي، ولن نجد أي تقدم في هذا الأمر ما لم تتحسن الأمور الاقتصادية بين تركيا والنظام في دمشق وخاصة مسألة طرق الترانزيت (العبور) للقوافل التجارية شمالاً جنوباً وبالعكس، وربما هذا الأمر لن ترغب به موسكو فهو ورقة ضغط جيدة على الجميع أيضاً، ولا يمكن وصف الحل في المشهد السوري على أنه سهل رغم كل الاجتماعات التي جرت من أستانا وحتى الاجتماع الرباعي الروسي التركي الإيراني السوري فالأمور متجمدة ولكنها آخذة في التعقيد أكثر فأكثر.
المصدر: تلفزيون سوريا