رياض معسعس
ما سر هذه الحرائق التي تندلع في دمشق، وخاصة في دمشق القديمة ومنازلها وأسواقها التاريخية؟
فدمشق القديمة تضم أجمل المنازل السكنية المعروفة عالميا، ومعظمها يعود بناؤها للقرن الثامن عشر والتاسع عشر ومنها ما هو أقدم من ذلك. بعض هذه البيوت تملكها عائلات معروفة لزعماء سياسيين، أو تجار كبار. وقد تم تدمير بعض منها من قبل الجيش الفرنسي عندما قصف دمشق بعد أن اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش في العام 1925، وقد نظم فيها أمير الشعراء قصيدته الشهيرة:”سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق”.
مخطط مدروس
حرائق الأمس التي ارتكبها عمدا جيش الانتداب كانت على يد الجنرال هنري غورو الحاكم العسكري الفرنسي في سوريا. لكن الحرائق المتكررة اليوم تجري دائما تحت جنح الظلام في مخطط مدروس للسيطرة على قلب العاصمة التاريخية التي يعود بناؤها إلى أكثر من عشرة آلاف سنة، وتضم كل المعالم التاريخية لجميع الحضارات المتعاقبة من رومانية، وعربية، ومملوكية وعثمانية، ومساجد تاريخية ومزارات وأضرحة. ففيها المسجد الأموي الذي يضم مقام الحسين (دفن فيه رأس الحسين)، ومقام يوحنا المعمدان (دفن فيه رأس النبي يحيى)، وفيها مرقد رقية بنت الحسين، ومقام معاوية بن أبي سفيان، وقبر عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وضريح صلاح الدين الأيوبي… ومكتبة الظاهر بيبرس. وبقايا معبد جوبيتر الروماني.. وسواها الكثير وقد سجلت مدينة دمشق القديمة في العام 1979 على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو.
يكمن خطر هذه الحرائق بالقضاء على آخر ما تبقى من عبق دمشق التاريخي، فهذه الحرائق التي تشهدها دمشق كانت نادرا ما تحدث سابقا، لكن ما يقع اليوم من حرائق وفي أماكن محددة تبعث على الاستغراب والتساؤل رغم أن البعض لديه شكوك حولها أنها مفتعلة لغايات محددة. فالحريق الأخير الذي اندلع يوم الأحد 14 تموز/يوليو في سوق ساروجا الأثري الذي يعود تاريخه إلى عهد الأمير المملوكي سيف الدين تنكز، ونسب اسم الحي إلى أحد قادته العسكريين صارم الدين ساروجة المتوفى سنة 743 هـ – 1342م.
ويضم الحي مدارس وجوامع وحمامات مملوكية بعضها لا يزال قائماً، منها جامع الورد وحمام الورد والمدرسة المرادية ومسجد الوزير وغيرها، وقد أطلق على الحي اسم (إسطنبول الصغرى) نسبة للأرستقراطية العثمانية التي سكنته (شهد هذا الحي حريقا تاريخيا آخر أيام غزو تيمور لنك دمشق وأمر بحرقها في العام 1400م وقد وثق المقريزي حريق دمشق وكيف حاول العالم العربي الكبير ابن خلدون مع وفد من العلماء ثنيه عن ذلك دون أن يفلح، لأن خلفية حقد تيمور الأعرج على دمشق كان لأنها عاصمة الأمويين، وكان متشيعا يناصر علي بن أبي طالب ضد معاوية بن أبي سفيان) وحسب شهادات أهل الحي فقد نشب الحريق في أحد المنازل العربية القديمة في حي خلف المصالح العقارية بشارع الثورة، وامتد الحريق إلى الأبنية المجاورة، منها منزل رئيس محمل الحج السوري في العهد العثماني عبد الرحمن باشا اليوسف الأثري الذي تم تزيينه في نهاية القرن التاسع عشر بأعمال رسم وحفر وتذهيب نادرة.
ويعتبر من كنوز دمشق المعمارية الذي لم يتبق منه سوى بضعة جدران، ودار السياسي ورئيس الوزراء السابق خالد العظم الملقب “بالمليونير الأحمر” والذي كانت تعقد فيه معظم الاجتماعات السياسية قبل وبعد الاستقلال ويحتوي على مركز للوثائق التاريخية والأثرية من أرشيف الدولة خلال فترة الحكم العثماني للبلاد، ووثائق تاريخية وأرشيفات ووثائق هامة ونادرة لمدينة دمشق وغوطتها وعامة سوريا.
وتكمن أهمية منزلي اليوسف والعظم اللذين يعود بناؤهما إلى الفترة الواقعة بين عامي 1820و 1850 أنهما مسجلان على لائحة التراث الوطني السوري في كونهما مرتبطين بالذاكرة السياسية والاجتماعية السورية.
هذا الحريق لم يكن الأول من نوعه ففي نيسان/ أبريل 2016 نشب حريق في سوق العصرونية (سوق يباع فيه جميع الأدوات المنزلية)، ويقع خلف الجامع الأموي، وبالقرب من قلعة صلاح الدين وقد أتى الحريق على 80 محلا تجاريا، وأصيب أكثر مئة محل تجاري بأضرار بالغة، وأشارت أصابع الاتهام إلى أطراف كانت ترغب بشراء المحلات التجارية لكن التجار رفضوا بيع محلاتهم.
وأشارت مصادر أخرى إلى أن جهات إيرانية كانت ترغب ببناء ضريح كبير لمرقد رقية (ابنة الحسين وقد توفيت عن عمر خمس سنوات) المتواجد في وسط السوق، وعرضوا على التجار المحيطين بالمرقد شراء محلاتهم لإقامة المشروع لكنهم جوبهوا بالرفض.
وقد سجلت حرائق أخرى في أكثر من سوق تراثية في دمشق القديمة وخاصة في سوق الحميدية الشهير في العام 2022. ويعزو النظام أسباب هذه الحرائق لـ”ماس كهربائي” مع أن الكهرباء تقطع أكثر من 18 ساعة يوميا. ما اعتبره البعض أنه تواطؤ النظام مع الأيادي الخفية.
طلب الحماية الدولية
وكان حريق هائل نشب في برج دمشق وسط العاصمة في منطقة البحصة دون توضيح الأسباب، وصرح رئيس فرق الإطفاء أنها أخمدت الحريق مرات عدة، ليعاود الاشتعال بسبب وجود مواد قابلة للاشتعال. وشهدت دمشق خلال السنوات الماضية عشرات الحرائق في المدينة القديمة، تضررت من جرائها أسواقها العريقة، واتهمت إيران بالوقوف خلف تلك الحرائق لتوسيع نطاق نفوذها في المدينة القديمة حسب موقع “صوت العاصمة”.
وأشارت قناة أورينت المعارضة “أن أصابع الاتهام أشارت بوضوح إلى وقوف إيران وراء الحريق نظراً لجهودها المستمرة منذ 2011 للتمدد في المنطقة، ويحاول نظام الملالي الضغط على أصحاب المحال التجارية في دمشق القديمة لبيع محلاتهم بهدف الاستيلاء على قلب دمشق الحيوي وشددت أنه لم يعد هناك أدنى شك لدى الأهالي في دمشق القديمة أن الحرائق مفتعلة ويقف وراءها سماسرة وتجار موالون لإيران للاستيلاء على المنطقة المحيطة بالمستشارية الإيرانية تمهيدا لإحلال سكان من تركيبة طائفية مغايرة لأهل المنطقة، وأفادت حسب أحد مصادرها أن جهوداً مُورست على وزيرة الثقافة لبانة مشوح لبيع منزل عبد الرحمن باشا اليوسف الذي تشرف عليه الوزارة منذ عام 1989 إلا أن رد الوزارة كان أن المنزل ممكن أن يطرح للاستثمار ولكن ليس للبيع.
ويقول الأستاذ الجامعي والباحث محمد حسني الذي عمل في منزل عبد الرحمن باشا يوسف إنه عمل في هذه الدار على الوثائق التي تحتويها والتي كانت تهم كل الباحثين والمستشرقين المهتمين بتاريخ دمشق وعائلاتها ومنهم المؤرخ أكرم العلبي وسواه، وهذه الوثائق تتضمن كل أصول العائلات الدمشقية، وحصر أملاكها والتي سيطر النظام على قسم كبير منها، وحاول طمس معالم ملكيتها (الطابو العثماني)، فهناك عائلة كانت تمتلك ساحة الأمويين ومكتبة الأسد ومبنى الإذاعة والتلفزيون تم السيطرة عليها من النظام، وذلك عائلة غفير التي كانت تملك من جسر فيكتوريا حتى فندق “فورسيزونزس” على سبيل المثال لا الحصر وكلها موجودة في الوثائق العثمانية.
وأكد عضو الهيئة السياسية للائتلاف الوطني السوري سليم الخطيب أن ما تعرض له سوق ساروجة، يأتي في سياق ممنهج لمحو هوية دمشق التاريخية، لافتاً إلى أن من يدمر البيوت فوق ساكنيها لن يصعب عليه إحراق سوق ساروجة أحد أهم معالم مدينة دمشق. وأضاف الخطيب أن سلسلة الحرائق المتتالية التي طالت أسواق ومعالم دمشق منذ أكثر من عقد تشي أن ثمة من يستهدف عن سبق الإصرار معالم عاصمة الأمويين، وأشار الخطيب إلى أن النظام الذي تسبب بتدمير ريف المدينة وتهجير وتشريد أهلها لن يكون بعيداً عنه اختلاق الحرائق في الأماكن التي تثير حساسيته الطائفية.
ولفت الخطيب إلى أنه لحسن الحظ فإن الوثائق الأصلية لم يطالها الحريق، وهي توثق أصول العائلات الدمشقية القديمة وأملاكها، وطالب الأمم المتحدة واليونسكو بإيجاد صيغة دولية لحماية هذه الوثائق وحفظها من التخريب وكف يد النظام والميليشيات الطائفية عنها.
المصدر: القدس العربي