عبد القادر المنلا
يحيل الكثير من السوريين ومتابعي الشأن السوري أسباب الانهيار المتواصل للّيرة السورية إلى عوامل اقتصادية بحتة، وإلى الشرخ الاقتصادي الذي تسببت به "الحرب" وتبعاتها وأدى إلى هذه الحال المزرية للّيرة، ويحيل آخرون سبب ذلك الانهيار لعوامل سياسية ناتجة عن سياسة النظام الداخلية وعلاقاته الخارجية في ضوء العقوبات والقطيعة وعزلته السياسية.
وبالنظر إلى بانوراما الواقع السوري، سنجد أن تلك الاستخلاصات لا تتوافق إلا مع القشرة الخارجية للمشكلة، بل وتلعب دوراً لصالح رواية النظام، لأننا إن سلّمنا بأن أسباب تدهور الليرة تعود إلى عوامل اقتصادية وسياسية، فسوف نضطر للتسليم أيضاً أننا أمام "أزمة" تتعرض لها "دولة"، خاضت "حرباً"، مجرد أزمة تشابه أزمات كل الدول الأخرى التي تمر بظروف مشابهة للظروف التي مرت وتمر بها سوريا، وبالتالي سيتوجب علينا أن ننظر إلى سوريا الحالية على أنها "دولة" كباقي دول العالم، وهذا ما يحرص النظام السوري على التأكيد عليه وهو يمثل خلاصة روايته وجوهر طرحه الإعلامي.
هنا لا بد من التنويه إلى أن المصطلحات الثلاثة التي يتحامى بها النظام (الأزمة، الحرب، الدولة) ما هي إلا أقنعة لمصطلحات أخرى حقيقية يريد النظام القفز عليها، فالأزمة هي الثورة التي يتجنب النظام ذكرها ويفرض على السوريين حذفها من قاموسهم اللغوي، والحرب هي فعل الإبادة الذي يرتكبه النظام منذ اثني عشر عاماً، أما الدولة فهي نظام العصابة ذاته.
من هنا يمكن النظر إلى مشكلة الليرة وأسباب تدهورها التراجيدي، حيث تعود في العمق إلى منشأ آخر تماماً، وتتوافق مع مجموعة الانهيارات المتلاحقة في كل مرافق الحياة منذ استلام آل الأسد للسلطة في سوريا.
وإذا ما عدنا قليلاً للوراء، أي للحقبة الأولى في عهد حكم الأسد الأب، سنجد أن تلك الانهيارات كانت مدروسة ومخططاً لها وأن إحدى مهمات الأسد الأساسية كانت العمل على تدمير كل الثروات الوطنية من خلال نهبها وسرقتها وتوزيعها على العائلة الحاكمة وبعض العائلات المقربة التي شاركت في فعل النهب ذاك، ولكنه ليس مجرد نهب، ليس نهباً بريئاً -إن جازت التسمية- ولا يتوقف عند طموح الثراء، وحدود السرقة واستنزاف خيرات البلد وثرواته، بل هو نهب بربري ذو بعد تخريبي يتقصد تدمير مستقبل سوريا، نهب يزيد عما يفعله الغزاة والمحتلون، فضلاً عن الهدف الأعلى والأهم للنظام وهو إخضاع الشعب السوري والعمل على تكريس ذلّه وانكساره.
في هذا السياق ستواجهنا مجموعة كبيرة من القضايا التي قامت على فكرة هندسة النهب والدمار، منها على سبيل المثال قضية المياه التي تحولت لأزمة منذ عقود على يد الأسد الأب وما رافقها من التدهور الذي شهدته سوريا من حيث ثروتها المائية، وإذا تتبعنا مأساة نهر بردى ونبع عين الفيجة، -على سبيل المثال- وما حل بهما من جفاف وتلوث، سنجد انهياراً مائياً لا يختلف عن الانهيار الذي لحق بالليرة، ولا يمكن إرجاع أسباب الجفاف والتلوث الذي لحق بنهر بردى وعين الفيجة إلى ظاهرة التغير المناخي، لأن انهيار الثروة المائية بدأ من نهاية الثمانينيات وقبل أن تظهر معالم التغير المناخي.
ما حدث لذلك النهر الذي يعد شريان الحياة الرئيسي لمدينة دمشق كان نتيجة تقاسم ضباط المخابرات وضباط القصر الجمهوري لمياهه من خلال بناء مزارعهم الخاصة على امتداد خط الربوة، وصولاً إلى زبداني وسرغايا، وكانوا يقومون بسحب المياه لملء مسابحهم وتغيير مياه تلك المسابح باستمرار ليتمتعوا بالسباحة في المياه النقية، وكذلك ريّ بساتينهم من المياه المخصصة للشرب في دمشق وريفها، الأمر الذي أدى إلى تراجع كمية المياه بنسب ملحوظة، إلى انهيار النهر ذاته، ثم راح النظام يستعيض عن مياه نهر بردى وعين الفيجة بمياه الآبار الكلسية، وشهدت دمشق خلال فترة حكم الأسد أكبر أزمة مياه في تاريخها وهي الأزمة التي تحولت إلى واقع كان على سكان دمشق التعايش معه.
انهيار الثروة المالية كان مترافقاً مع انهيار في كل القطاعات الأخرى، كقطاع العقارات والتجارة والزراعة والسياحة والصناعة، حيث تركزت كلها في يد العائلة الحاكمة (المالكة) والعوائل القريبة منها، وحاشية الرئيس وحرسه، ولكن كما رقّع النظام مفاهيم الثورة والإبادة والعصابة بمفهوم الأزمة والحرب والدولة، رقّع نقص مياه بردى وعين الفيجة بمياه الآبار الكلسية ولجأ إلى عملية الترقيع في القطاعات الأخرى، ترقيع الكهرباء بالتقنين، وترقيع الملكية الخاصة لكل القطاعات بمؤسسات تتلقى أوامرها من القصر الجمهوري، وحرص على استمرار القشرة الخارجية متماسكة فيما الانهيار ينخر في العمق.
لم يسلم البحر أيضاً من أذى النظام الذي وزع الشاطئ السوري على أصحاب النفوذ كنوع من المحاصصة، وهؤلاء حولوا البحر إلى مناطق استثمار خاصة من خلال استثمارات لا تتطابق مع الحد الأدنى لشروط البيئة، وتم تقاسم الشواطئ والموانئ بين المتنفذين على طريقة المافيات، فحدث ما حدث من تشوه
أما الثروة الأكبر، "البترول" فقد احتكرها الأسد الأب سراً لصالح ابنه "باسل" كملكية فردية لا تحتاج للترقيع، وكان من الممكن لتلك الثروة النفطية أن تحول الشعب السوري إلى واحد من الشعوب الغنية فيما لو تم تخصيص جزء من عائدات النفط لرفع رواتب السوريين ودخلهم..
لم تترك عائلة الأسد وحلفاؤها من عوائل مخلوف وشاليش أياً من دعائم الثروات الوطنية إلا ونهبوها ودمروها من خلال وضعها تحت تصرف "الأشخاص" بشكل سري أحياناً وعلناً في أحيان كثيرة.
من هنا نستطيع القول بلا تردد بأن هذا الانهيار لليرة السورية كان نتيجة عوامل تاريخية متراكمة، وما تم ذكره ليس سوى جزء يسير من سلوك النظام وطرق تعاطيه مع ثروات سوريا ومعالمها، إنه جزء من مخطط طويل الأمد لضرب الاقتصاد بالكامل وبالتالي ضرب العملة الوطنية من خلال سرقة الأرصدة التي تقوي وضع الليرة، أي أن ما وصلت إليه الليرة من تدهور كان سيحصل حتى لو لم تشهد سوريا تلك "الحرب".
إن التدمير الممنهج لكل المكتسبات الوطنية من خلال السرقة والنهب ستنعكس حتماً على العملة الوطنية التي كان تدهورها يتوارى خلف تلك الترقيعات المرحلية، والانهيارات المتلاحقة التي تشهدها الليرة ما هي إلا نتيجة للنخر الذي بدأ يأكل الجسد السوري منذ عقود، البلد الذي يدار بعقلية العصابة وليس بعقلية دولة، ومن هنا لا يمكن النظر إلى سوريا على أنها دولة ولا إلى انهيار الليرة على أنه مجرد أزمة تمر بها دولة كما يريد النظام دائماً أن يقول، لأن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها "الدول"، تنعكس على حياة الشعب والقيادة معاً، فيما المتضرر اليوم هو الشعب السوري وحده، بينما تعيش القيادة مستوى غير مسبوق من الرفاهية..
ماذا لو عادت قيمة الليرة السورية إلى سعرها الذي كانت عليه ما قبل الثورة، هل ستختلف حياة السوريين القابعين تحت سلطة النظام، وهل سوف تتحسن ظروفهم وحياتهم الاقتصادية؟ بالطبع لا، فقد كشر نظام العصابة عن أسنانه وأعلن بشكل مباشر أنه قسّم سوريا إلى سادة وعبيد، وعلى العبيد أن يصفقوا لطغيانه وقمعه وفشله في إدارة البلاد وليس من حقهم المطالبة بأي حق من حقوقهم، ولا سيما بعد أن ضمنت العصابة الحاكمة صمت المجتمع الدولي مرحلياً على الأقل..
لا تتوقف مشكلة السوريين عند حدود الليرة وانهياراتها المتعاقبة، لأنهم يعون جيداً أن استمرار نظام العصابة يعني استمرار مأساتهم وتفاقمها، وهي ليست مجرد مأساة اقتصادية بل هي أزمة وجودية بالدرجة الأولى..
ربما كان وضع صورة حافظ الأسد ومن ثم صورة بشار الأسد على بعض فئات العملة السورية أكبر بداية الانهيار المترافق بإهانة السوريين وإذلالهم المتعمد، وهو أكبر من الانهيار المادي الذي تشهده الليرة بكثير..
الليرة السورية تم اعتقالها وتصفيتها منذ عقود، وما تشهده اليوم من انهيار وتراجع ما هو إلا مجرد إعلان عن المخفي والمتواري، هو إزالة للرقع التي لم تعد تصمد كثيراً بعد تهالك الثوب كله.
أما نظام العصابة فماضٍ في نهجه التدميري بصرف النظر عن معاناة الشعب، لقد كانت الليرة إحدى ضحاياه، ويبدو وكأنه لا يتردد بدفن جثة عملته وهو يردد مبتهجاً: الليرة المذبوجة لا يؤلمها السلخ..
المصدر: تلفزيون سوريا