المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
شهدت الأسابيع الماضية حراكًا دبلوماسيًا نشطًا بين طهران ودول الغرب، خصوصا الولايات المتحدة الأميركية، بخصوص حل أزمة برنامج إيران النووي. ويبدو أن الجهود الدبلوماسية الحالية محصورة في إنجاز اتفاق مؤقت أو محدود، من دون عودة كاملة إلى اتفاق عام 2015، المعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" JCPOA. ووفقًا لوسائل إعلامية أميركية، فإن الاتفاق المطروح حاليًا يتضمّن قيودًا أقلّ مما كان عليه الحال في اتفاق عام 2015، وقد يشمل تقييد صادرات السلاح الإيرانية إلى روسيا، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية الأميركية على طهران وعدم العمل ضدها في المؤسسات الدولية.
خلفية المحادثات
انتهت المفاوضات الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 إلى فشل في خريف عام 2022. وكان أبرز نقاط الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران رفض الأخيرة العودة إلى نسبة تخصيب اليورانيوم التي حددها الاتفاق النووي لعام 2015 بـ 3.67%، ورفعتها هي إلى 60%؛ على أساس أن الولايات المتحدة هي التي أخلّت بشروط الاتفاق بانسحابها منه عام 2018 وإعادة فرض عقوبات على إيران. وترى واشنطن أن هذه النسبة (أي الـ 60%) تعني، نظريًا، تقليص ما يُعرف بفترة "الاختراق" Break Through لصناعة سلاح نووي خلال فترة تراوح بين سنة وبضعة أسابيع فقط. وتطالب إيران أيضًا برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وكانت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، قد صنّفته منظمةً إرهابية عام 2019، بغية تعقيد قدرة أي إدارة مقبلة على إحياء الاتفاق النووي. إضافةً إلى ذلك، تطالب إيران واشنطن بضمانات بعدم الانسحاب من الاتفاق مستقبلًا، وفرض عقوباتٍ جديدةٍ عليها من أي إدارة أميركية. في المقابل، تصرّ إدارة الرئيس جو بايدن على أنه لا يمكنها الوفاء بذلك؛ فالاتفاق النووي ليس "معاهدة" ملزمة لأي إدارة مقبلة؛ ويتطلب إقرار المعاهدات موافقة مجلس الشيوخ الأميركي؛ وهو أمر غير ممكن في ظل تشكيلة المجلس الحالية. ومن ثمَّ، فإن قرارًا تنفيذيًا من رئيسٍ يكون قابلًا للنقض بقرار تنفيذي من رئيس آخر.
وكان التواصل الدبلوماسي بين واشنطن وطهران قد استؤنف في نهاية عام 2022، تحديدًا بين المبعوث الأميركي الخاص لإيران، روبرت مالي، وسفير إيران لدى منظمّة الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، حيث عقدا عدّة اجتماعات منذ ذلك الحين، غير أن هذه الاتصالات أخذت طابعًا أكثر إلحاحًا، بعد هجوم بطائرة من دون طيّار على قاعدة عسكرية أميركية في سورية، في آذار/ مارس 2023، أسفر عن مقتل متعاقد أميركي. وقد حَمَّلَت الولايات المتحدة مليشيات محسوبة على إيران مسؤولية الهجوم، وردّت بضربة جوية على منشأة إيرانية في سورية أسفرت عن مقتل عدد من عناصرها. وتقول المصادر الأميركية إن إيران بعثت بعد ذلك رسائل إلى إدارة بايدن، مبديةً رغبتها في إجراء محادثاتٍ لمنع التصعيد. وقد عُقد، منذ ذلك الحين، اجتماعان بين المفاوضين الإيرانيين ومسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، في سلطنة عُمان، تجاوزت فيهما المحادثات مجرّد بحث طرائق خفض التصعيد بين الطرفين، لتشمل ملفّات أخرى، مثل برنامج إيران النووي، والعقوبات، والدعم الذي تقدّمه طهران لروسيا في حرب أوكرانيا، فضلًا عن تبادل سجناء.
دوافع الطرفين
ينطلق المفاوضان الأميركي والإيراني من أن إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 غير ممكنة عمليًا؛ فإيران تشغّل حاليًا أنظمة طرد مركزي أكثر تقدمًا من التي سمحت لها بها خطّة العمل الشاملة المشتركة، فضلًا عن أنها تخصّب اليورانيوم بدرجات عالية (60%) تجعلها أقرب إلى النسبة التي تمكّنها من صناعة قنبلة نووية (90%). وليس في نيتها التنازل عن هذه المكتسبات. وفي المقابل، لا يبدو أن إدارة بايدن تنوي الدخول في مواجهة مع الكونغرس من خلال رفعها العقوبات عن إيران، من دون تنازلاتٍ كبيرة لا تبدو طهران مستعدّة لها. وكان الكونغرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، قد أصدر قانونًا بأغلبية كبيرة من الحزبين بعد الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بعنوان "قانون مراجعة الاتفاقية النووية الإيرانية لعام 2015" INARA، أعطاه حقّ الرقابة على كيفية تنفيذ الولايات المتحدة الاتفاق، وإن كان هذا القانون يخضع لأغلبية الثلثين. لكن إيران، في الوقت نفسه، تسعى إلى تجنّب مواجهة مع الولايات المتحدة، خصوصًا مع تهديدها بأن بلوغ طهران نسبة 90% من تخصيب اليورانيوم سيتطلب ردًا أميركيًا، قد يتضمّن بعدًا عسكريًا. وعلى هذا الأساس، فإن اتفاقًا محدودًا أو مؤقتًا، على شكل تفاهمات محدّدة واتخاذ تدابير بناء ثقة متبادلة، بدلًا من محاولة إحياء الاتفاق النووي الأصلي، يمثل مخرجًا معقولًا، فبايدن يحاول تجنّب تصعيد في الشرق الأوسط بسبب أزمة مع إيران قبل الانتخابات الرئاسية عام 2024، وخصوصًا أنه يواجه تحدّي الحرب الروسية في أوكرانيا، والتوتر المتصاعد مع الصين بسبب تايوان. وترى إدارته أن الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها إيران على مدى الأشهر الماضية لم تضعف النظام، كما أن تطبيع طهران علاقاتها مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يعزّز مكانتها في المنطقة، ويصعّب محاولات عزلها. وتأمل واشنطن أيضًا أن تتراجع طهران عن دعم موسكو في حربها في أوكرانيا بتزويدها بصواريخ بالستية وطائراتٍ من دون طيار، مقابل ما ستجنيه من الفوائد الاقتصادية في حال تخفيف العقوبات الأميركية المفروضة عليها.
في السياق نفسه، لا تريد طهران استفزاز الولايات المتحدة إلى الحد الذي تضطرّها فيه إلى ردّ عسكري ضدّها، وهي تعاني وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية عليها، وتريد متنفّسًا منها. فضلًا عن ذلك، هي في حاجة إلى تحييد واشنطن، كي تتمكّن من المضي في تطبيع علاقاتها مع جيرانها العرب. وعلاوة على ذلك، قد تكون لدى المحافظين الذين يسيطرون على مقاليد الحكم في إيران حسابات سياسية؛ ذلك أن الانتخابات البرلمانية ستجري عام 2024، وأي تخفيف للعقوبات الاقتصادية على البلاد قد يمنحهم دفعة قوية فيها.
الخطوط العامة للاتفاق المفترض
على الرغم من أن واشنطن وطهران لم تعلنا عن اتفاقٍ وشيك، فإن خطوطًا عامة يجري تداولها لاتفاق محتمل، يمكن تلخيصها في التالي:
(1): تلتزم إيران بعدم تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز 60%، وهو أكثر بكثير مما نص عليه اتفاق عام 2015، والذي حدد النسبة بـ 3.67%. وبحسب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، فإن تخصيبًا لليورانيوم بهذه النسبة (60%) يعني أن إيران قد تحتاج "عدة أشهر" فقط لصنع قنبلة نووية. لكنّ تقديرات عسكرية إسرائيلية ترى أن الأمر قد يتطلّب من إيران قرابة عامين لتحقيق ذلك، وأن هدف تصريحات ميلي ربما إعطاء الكونغرس شعورًا بالإلحاح بضرورة دعم اتفاق جديد.
(2): توسّع إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والسماح لها بإجراء عمليات تفتيش مشددة في مواقعها النووية.
(3): توقف إيران هجمات وكلائها في المنطقة على القوات الأميركية أو المتعاقدين الأميركيين، من مدنيين وعسكريين.
(4): تمتنع إيران عن تزويد روسيا بالسلاح، وخصوصًا الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية.
(5): تطلق إيران سراح ثلاثة رجال أعمال أميركيين، من أصل إيراني، تعتقلهم بتهم تجسّس، وهو ما تنفيه الولايات المتحدة، وتكشف عن مصير ضابط متقاعد من مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي)، هو روبرت ليفنسون، الذي عمل بعد ذلك متعاقدًا مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، واختفى في إيران في ظروفٍ غامضةٍ عام 2007. ومع أن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قد وصف التقارير التي تتناول الخطوط العامة للاتفاق بشأن "المسائل النووية والمعتقلين" بأنها "غير دقيقة"، ومع أن ملف المعتقلين الأميركيين تجري متابعته من الناحية الفنية عبر سويسرا، فإن ماكغورك شدّد، وفقًا لبعض التسريبات، خلال المحادثات التي أجراها مع الإيرانيين، على أنه لا يمكن تصوّر تحقيق تقدّم في أي قضايا بين الجانبين من دون إطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير ليفنسون. وقد أكّد وزير الخارجية العماني، بدر بن حمد البوسعيدي، في حزيران/ يونيو 2023، "قرب" توصّل الطرفين إلى اتفاق في هذا الشأن.
قد ينصّ الاتفاق المحتمل على أن تمتنع إيران عن تزويد روسيا بالسلاح، وخصوصًا الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية
(6): في المقابل، تخفّف الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية على إيران، وتتوقّف عن مصادرة الناقلات التي تحمل نفطها، وتمتنع عن دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية أو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لاتخاذ إجراءات عقابية ضدّها.
(7): ترفع الولايات المتحدة التجميد عن بعض أموال إيران في البنوك الدولية، شرط أن تذهب تلك الأموال إلى أطرافٍ ثالثة، وتُستخدم في مقابل مشترياتٍ إنسانية لا تخضع للعقوبات، مثل الغذاء والدواء، وهو مسار استخدمته الهند وغيرها لدفع ثمن شحنات النفط الإيرانية. وكانت إدارة ترامب هي التي فرضت هذه الآلية، بحيث تودَع الأموال في بنوكٍ ليس لطهران سلطة عليها. وتبحث الصفقة المفترضة بين الطرفين مصير سبعة مليارات دولار مجمّدة لإيران في كوريا الجنوبية، وتدرس وزارة الخزانة الأميركية ترتيبًا تحوّل بموجبه تلك الأموال إلى حسابٍ تراقبه الولايات المتحدة في بلد ثالث. بعد ذلك، تتقدّم إيران بطلب للحصول على أموال منها لتذهب إلى "منظمة إنسانية"، توفّر مشتريات إيران من الغذاء والدواء، على أن تخضع كل معاملة لموافقة على حدّة من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، وأن لا تمرّ تلك الأموال عبر الأنظمة المالية الأميركية أو الإيرانية. وفي إشارة إلى حدوث تقدّم في هذا الملف، منحت واشنطن العراق إعفاءً سمحت له بموجبه بدفع ديون الغاز والكهرباء المترتبة عليه لإيران بقيمة 2.76 مليار دولار.
(8): تفرج الولايات المتحدة عن أربعة معتقلين إيرانيين في سجونها.
خاتمة
تشير المعطيات إلى أن واشنطن وطهران تسيران في اتجاه عقد اتفاقٍ مؤقتٍ أو محدود تمليه الضرورة، من دون سقف اتفاق عام 2015، إلا أن ذلك لا يعني أن الاتفاق صار محققًا. فقد انهارت مثلًا محادثات فيينا، حينما بدا أن الطرفين قد توصلا إلى "مسوّدة اتفاق"، في آذار/ مارس 2022. لكن المحادثات هذه المرّة، عكس محادثات فيينا، لا ترمي إلى إحياء اتفاق عام 2015 وعودة الولايات المتحدة إليه، بقدر ما تركّز على قيود محدّدة أو مؤقتة على البرنامج النووي الإيراني والإفراج عن معتقلين وأموال محجوزة. وقد يفسّر هذا تصريحات المرشد الإيراني، علي خامنئي، في حزيران/ يونيو 2023، حينما قال إنه "لا ضير" في التوصل إلى اتفاق مع الغرب بشرط "الحفاظ" على البنية التحتية النووية لإيران. إضافة إلى ذلك، لا توجد معارضة إقليمية قوية لاتفاق أميركي - إيراني، كما كان عليه الحال في اتفاق عام 2015، خصوصا في ضوء التقارب الحاصل بين إيران ودول عربية في الخليج (السعودية والإمارات تحديدًا). فحتى إسرائيل التي عارضت بشدة اتفاق عام 2015 لا تبدي هذه المرّة المستوى نفسه من المقاومة؛ لأسبابٍ منها أن الاتفاق المحدود لا يرفع العقوبات المفروضة على إيران، وبنيامين نتنياهو لا يملك اليوم التأثير الذي كان له قبل ثماني سنوات في واشنطن، خصوصا في ظل تهميش إدارة بايدن له، ولحكومة اليمين المتطرّف التي يقودها، ورغبة عديدين من أعضاء الكونغرس في إبقاء مسافة تفصلهم عنه للسبب نفسه. ومما يدلّ على ذلك ما أوضحته مصادر أميركية وإسرائيلية من أن مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، وبّخ، الأسبوع الماضي، نظيرَه الإسرائيلي، تساحي هنغبي، في مكالمة هاتفية بينهما بسبب تسريباتٍ متعمّدة يقوم بها نتنياهو للإعلام وللجمهوريين حول الاتفاق المحتمل مع إيران، بناء على معلوماتٍ استخباراتية تتشاركها الولايات المتحدة وإسرائيل.