العقيد عبد الجبار العكيدي
كانت البادية السورية، أو ما يُعرف ببادية الشام، منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ساحة صراعات قوية بين القوتين العظميتين آنذاك، الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية ثم البيزنطية، نتيجة موقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية والجيوسياسية، باعتبارها واحة لعبور القوافل التجارية وإحدى محطات طريق الحرير القديم.
الملكة زنوبيا التي أدركت مبكراً أهمية بادية الشام الحيوية التي تتحكم بطرق التجارة العالمية، استطاعت أن تحدث خللاً في صراع الامبراطوريات العظيمة حين أقامت دولتها في هذه البادية وعاصمتها تدمر.
كان من الطبيعي أن يحصل هذا الصراع للسيطرة على البادية السورية عبر التاريخ، كونها تقع في منطقة جغرافية هامة من العالم، فهي عقدة الوصل بين غرب آسيا وشرق أفريقيا وجنوب أوروبا، وتمتد على مساحة شاسعة تشمل شمال شرق الأردن، وغرب العراق، وجزء من شمال السعودية.
لم تدرك قوى الثورة السورية وفصائلها العسكرية أهمية هذه المنطقة منذ البداية لأنه لم يكن لديها تطلعات جيواستراتيجية للسيطرة على الثروات الاقتصادية كالغاز والفوسفات، بل كان جلّ هم هذه القوى إزالة النظام والتخلص من الاستبداد وحكم العسكر والأجهزة الأمنية، والانتقال السياسي نحو بناء الدولة الديمقراطية.
بالمقابل حظيت تلك المنطقة باهتمام مبكر من قبل تنظيم "داعش"، الذي أدرك أهميتها العسكرية والأمنية بالإضافة إلى كونها مصدر تمويل مالي كبير لاحتوائها على الغاز والنفط والفوسفات، وطرق التهريب، فاستمات للسيطرة عليها أكثر من مرة في عام 2015، حيث سيطر التنظيم على مساحات شاسعة منها، لتبدأ الدول المتداخلة بالشأن السوري تظهر اهتمامها بهذا الجزء من البلاد، فكل الدول التي لها قوات على الأراضي السورية، تسعى للسيطرة اليوم على البادية لتحقيق مصالحها العسكرية والجيوسياسية.
الولايات المتحدة
منذ بداية تدخلها انشأت قاعدة لها في منطقة التنف في موقع استراتيجي هام جداً، بهدف حماية قواتها المتواجدة شرق الفرات ومساندة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في محاربة داعش، وحماية حقول النفط، ولإعاقة طموحات روسيا وإيران في السيطرة على البادية وفتح طرق الشحن من شرق سوريا ومن العراق.
تعي الولايات المتحدة تماماً أن اتساع البادية الجغرافي وطبيعتها الصحراوية، يجعل منها بيئة ملائمة لكل القوى الراديكالية سواء (تنظيمي داعش والقاعدة)، أو الميليشيات التابعة لإيران، التي يمكن أن تتخذها أوكاراً لها يصعب رصدها والسيطرة عليها، لذا حرصت واشنطن على أن تبقى هذه المنطقة تحت سيطرتها.
إيران
تنتشر الميليشيات التابعة لإيران شرق حمص وشرق حماة ومناطق السلمية والسعن والطرق الرابطة بين تدمر والسخنة، بالإضافة الى المحميات الموجودة جنوب شرق تدمر، وطريق آراك، المحطة الثانية، البوكمال، الميادين.
وتكمن أهمية البادية السورية بالنسبة لإيران من الجانبين الجيواستراتيجي واللوجستي بأنها الطريق البري الوحيد لها باتجاه الساحل السوري ودمشق وبيروت، بالإضافة الى قربها من حدود فلسطين المحتلة، وهي أهم ممر حيوي لها، خاصة وأن طهران تعتبر أنها مرصودة أميركياً، لذا تحرص على أن يكون لها ممرات بديلة وإحداها عبر البادية السورية.
روسيا
تأتي أهمية البادية السورية بالنسبة لروسيا من كونها الهامش الخطر الذي يشكل تهديداً دائماً لعموم الحواضر التي تسيطر عليها، كما أنها ستحقق وصولاً سهلاً، في حال تأمينها، لإمدادات الدعم اللوجستي لمناطق النشاط الروسي من جهة، وإمدادات الموارد الموجودة بالغالب شرق الفرات، من زراعة ونفط وغاز لعموم الحواضر من شواطئ الفرات إلى حلب، ومدن الداخل وصولاً إلى دمشق ودرعا والسويداء.
وهكذا كان الاهتمام الروسي ومنطقة عملياته تنشط عبر القوس الواصل من شرق السويداء إلى جنوب البوكمال- القلمون، القريتين، تدمر، السلمية، أثريا، السفيرة، السخنة وجنوب دير الزور، حيث تتموضع القوات الروسية في تدمر ومطار دير الزور، ومطار T4، والقريتين، بالإضافة للفيلق الخامس التابع لها والمنتشر في أثريا، وخناصر، وميليشيات لواء القدس والباقر الموالين لها، الموجودة في البلدات الواقعة على ضفاف الفرات.
يبقى الهدف الأساسي لروسيا هو استكمال مشروعها بتأمين سيطرة النظام على كامل التراب السوري، والاستمرار في إعطاء رسالة لكل الأطراف الدولية أنها اللاعب الأساسي الذي يدير الصراع بنجاح، إضافة لأهدافها الاقتصادية في البادية السورية تتمثل في الوصول لموارد النفط واستثمار مناجم الفوسفات، التي تعتبر الأكبر في سوريا.
عاد الحديث مؤخراً عن احتمال الانسحاب الأميركي من سوريا والعراق، بعد انسحابها من أفغانستان، ورغم تأكيدات مساعد وزير الخارجية الأميركية بالوكالة لشؤون الشرق الأدنى جوي هود خلال لقاءه مع قيادات الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا في بداية شهر أيلول\سبتمبر الجاري، أن القوات الأميركية لن تنسحب من المنطقة، وأن سيناريو أفغانستان لن يتكرر في سوريا، إلا أن هذه التصريحات لم تبدد مخاوف قسد، والرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية )مسد) الهام احمد التي طالبت أكثر من مرة قيادات القوات بالاستعداد لأي سيناريو محتمل لانسحاب القوات الأميركية من المنطقة، وسعيها الحثيث في البحث عن بدائل وتحالفات جديدة في حال تخلي الحليف الأميركي عنهم، وذلك من خلال الرسائل التي أرسلتها الى المعارضة السورية في الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض، ومحاولات التقرب من النظام عبر الوسيط الروسي، محذرة واشنطن من أن الحل السياسي في سوريا لم يحِن بعد وأن الوجود الأميركي يُعتبر ضمانة للوصول الى التفاهمات السياسية، وأن انسحابهم سيكون له مخاطر كبيرة على مستقبل المنطقة بالكامل.
إلا أنه رغم الحديث عن تقليص حجم القوات الأميركية في المنطقة أو انسحابها باتجاه الأردن، إلا أن احتمال الانسحاب من سوريا والعراق مستبعد في المدى المنظور، وفي حال حصوله من الجزيرة السورية فمن المتوقع إعادة التموضع في البادية السورية، وربما تقليص لقواتها وتعزيزها وتركيزها في قاعدة التنف، التي تُعتبر نقطة رصد لكامل المنطقة، بالإضافة إلى قاعدة الزكف التي تبعد عنها حوالي 25 كيلومتراً في عمق البادية السورية باتجاه مدينة البوكمال، كقاعدة متقدمة لحماية قواعدها في الأردن، معتمدة على قوى محلية مثل فصيل مغاوير الثورة التابع للجيش السوري الحر الذي يقوده المقدم المنشق عن جيش النظام مهند الطلاع، والذي يخشى بدوره الانسحاب الأميركي من سوريا أيضاً، ويتمنى بلا شك أن تصمم واشنطن على التمسك بالبقاء في هذه المنطقة وخوض المعركة المحتملة فيها على الخروج باتجاه الأردن.
المصدر: صحيفة "المدن"