جمال الشوفي
أبناء درعا ينعون أبناءهم الغرقى في مياه المتوسط قبالة سواحل اليونان، ويعلنون الحداد العام لثلاثة أيام، وشباب من السويداء يضيئون شموعاً تضامناً وحداداً فقمح ومياه السهل والجبل واحد وحزنهم ومصيره واحد. مظاهرات في أثينا غاضبة على سياسة الحكومة اليونانية والاتحاد الأوروبي تتهمهم بالمشاركة في المقتلة المستمرة لضحايا قوارب الموت، أما الإعلام السوري الرسمي فلا يعنيه الحدث ولا يأتي على ذكره، فأخبار المصالحات العربية وعودة سوريا للحضن العربي الدافئ هي أبرز الأحداث السياسية الحالية!
الإحصائيات بين عدد المنقذين ومن تم انتشال جثثهم تتباين بدقتها، في حين ما يزيد على 500 بحكم المفقودين بعد 4 أيام من غرق القارب. أمّا المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة فتقول إن ما بين 700 و750 بينهم 40 طفلاً كانوا على متن القارب يحاولون الوصول لأوروبا، غالبيتهم من السوريين وجنسيات أخرى، ومن بينهم قرابة 150 من أبناء درعا! والقارب كان متجهاً من السواحل الليبية إلى اليونان فكان الغرق مصيرهم، كما كان مصير الآلاف قبلهم!
ماذا لو تركنا الخبر السياسي البارد رقميًا وفكريًا قليلًا، وأطلقنا عنان الخيال للحظات! ماذا لو خرجنا عن مألوف القول والتحليل وتوقفنا عند مواجهة الموت مباشرة، في الصراع مع موج البحر الهائل وعدد الأنفاس والأمتار التي يمكن أن يغالب فيها المرء قدرته على البقاء حيًا؟ وزمن الفاجعة يسطّر: ليت العالَم نظرَ في عيون الأطفال التي لا تفرق بين ملوحة الدمع وملح البحر! ماذا لو حاول ممتهنو القول الموزون شعرًا وأدبًا وسيل فرضيات نظرية وأداليج، ماذا لو توقفوا على أطلالهم لحظة! ماذا لو سُمعت أصواتهم وشوهدت صور خوفهم من الموت المطبق عليهم؟ ماذا لو مروا على أحلامهم تعزف على أوتار الكون، وتسيل نهرًا من أنهار الأرض في بلاد أمان واستقرار ترعى أحلامهم وشؤونهم بدل ديارهم علّها تنبت أزهار الربيع البري؟
كانوا أطفالًا وشبابًا وجيلًا بكامله لكنه ما زال يمارس قدرية الاختفاء فوجًا وراء فوج، قاربًا خلف قارب، باصًا خلف باص من جيل الشباب السوري. جيل تتكرر مشاهد موته المتتالية بألف طريقة، وأشدها ألمًا الموت على شواطئ هجرة غريبًا غرقًا وأوروبا كانت في متناول يديه! وما زالت صورة إيلان، الطفل المرمي على سواحل اليونان ميتًا، تحزّ في الذاكرة ألمًا! في حين أن مبادرات السلام والتوافق والتعافي المبكر تتصدر أخبار السياسة! وهذه السياسة باتت لعنة موت متعددة الطرق تطول غالبية السوريين في مشاهد قلما تتكرر في التاريخ السابق والمقروء!
المشهد المتكرر للسوريين اليوم لا يمكن قراءته من بوابة الحدث العابر الذي طالما تكرر في السنوات السابقة. مشهد غرق القارب على الشواطئ اليونانية اليوم يطرح مؤشرات عدة سياسية وديموغرافية ونفسية. إذ شهدت درعا في الأسابيع المنصرمة مبادرة مصالحة واسعة كان مفادها العام تسليم السلاح والعفو عن المنشقين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية شريطة العودة لقطعاتهم العسكرية والالتحاق بالخدمة العسكرية خلال ستة أشهر من توقيع المصالحة، وإزالة أسماء المطلوبين أمنيًا من قوائم الفيش والتفييش الأمني. الأمر الذي يقرأ في عنوانه المعلن وكأنه مصالحة شعبية وتوطيد أمن وسلام واستقرار في المنطقة. فلماذا لم يعد الشباب السوري من أبناء درعا من ليبيا إليها؟ ولماذا تقدم كل التسهيلات لمن يوقع على المصالحة بالحصول على جواز سفر من دون تأخير؟ فلو كان الأمن والأمان والتغيير في النهج والسلوك وتوطيد الاستقرار هو عنوان المصالحة تلك، لكان من المفترض أن يعود، ليس أبناء درعا الـ 150 الذين غرقوا على متن القارب، بل أضعافهم من دول الجوار، ولما كان الشباب حصريًا يختار المغامرة الطويلة للخروج من سوريا مرة أخرى بأي طريقة ووسيلة بعد أن وقعوا على مصالحة واهية وحصلوا على جواز السفر!
مؤشرات الرفض النفسي العام لمجريات الأحداث في الجنوب السوري وعدم توفير عوامل الأمن والأمان هي الأوضح، إذ لطالما جربت سابقًا مصالحات عدة، وبقي القتل والموت يلاحق الشباب مرارًا وتكرارًا. فلم تتوقف عمليات الاغتيال المنسوبة لمجهول طوال الأعوام السابقة في درعا، ولم تأخذ أية مبادرة للسلام والمصالحة جدّيتها الفعلية ما لم يحدث التغيير الأمني والسياسي في تركيبة الحكم في المنطقة وسوريا. وهذا له دلالات سياسية واضحة، فتصطدم كل مبادرات الحلول الجزئية المطروحة على الساحة وآخرها المبادرة العربية، بحاجز التركيبة الأمنية السياسية التي تصرّ على ممارسة الدور ذاته في رفض الآخر إلا بشرط الخضوع المطلق لسياسة وحيدة الاتجاه، ترفض بصلَفٍ وتعنّت التغيّر في محتواها وإنْ تغيّرت أساليبها وأدوات تمظهرها للإعلام الخارجي! ما يحيل بالضرورة إلى سياسات تستهدف تهجير الشباب السوري من المنطقة الجنوبية ودرعا بشكل رئيسي وتفريع المنطقة من قوتها الفاعلة والمنتجة، ما يشي بتغيير ديموغرافي سيفصح عن نفسه قريبًا، كما حدث في ريف دمشق الشرقي والغربي قبل أعوام وغالبية المدن التي خضعت للتسويات والمصالحات التي رعاها الروس أواخر عام 2017 حتى منتصف العام 2018 في درعا.
ليس حدثًا عابرًا غرق القارب لكنه مكرر عشرات المرات وقد يكون ثاني أسوأ حادث من نوعه منذ العام 2015 بحسب تصريح دي غياكومو، الناطق باسم المنظمة الدولية للهجرة. ليشهد العالم بمنظماته ورعاته السياسيين على طرق الموت المتعددة التي وقعت بحق السوريين وما زالوا يعيشونها رغم كل الحديث عن مبادرات السلام والتعافي والمصالحة التي لا تمتّ لأرض الواقع بصلة. وموتى القارب، أو اختفاء العائدين من لبنان قسريًا أدلة تفقأ عين السياسة ورعاتها! وليشهد التاريخ أنه حين استفاق طائر الفينيق فينا من تحت الرماد، وأحيا لغة الحب والحرية والحياة، عشنا الكارثة بكل تفاصيلها. فما عادت تكفينا اللغة وصفًا، ولا الأرقام عدًّا. وما زلنا نسبر الموقف ونرتقب أسرار البداية وطبيعة نهاية ما، وعشرات القرارات من مجلس الأمن والجنيفات والأستانات وعشرات المنصات السياسية ومئات من المنظمات والأحزاب تبحث عن مجدها وموقع لها في إدارة سلطة ما تفترضها أو تتوهّمها، هذا إن استطاعت أن تجد مكانًا لها في ظل السلطة القائمة، على حساب احتراق الطائر الأسطوري. فهل كنا نحلم؟
هل توهّمنا أننا سنسبر غور الحياة علمًا وقانونًا، ونستقر في دولة سياجها دستور عصري وأرضها حرية الفكر والقول والإيمان، وأبناؤها يحكمون بالعقل والحب قبل السطوة والملك؟ دولة الحق والقانون، دولة الحريات الفكرية والسياسية والمدنية والإيمانية وحق التظاهر السلمي وتشكيل المنابر والأحزاب والمنظمات المدنية التي تصونها وتكفلها الدساتير، فهل شُبه لنا؟ دولة يستحقها السوريين فهم ليسوا أقلّ إمكانية من أقرانهم في دول أوروبا المتقدمة التي تغرق القوارب على بواباتها. فأين نحن اليوم وأي الطرق من الموت لم نجربه بعد؟ عظم الله أجرك يا بلد....
المصدر: تلفزيون سوريا