د. فيصل القاسم
مسلسل «الخربة» للدراماتست والكاتب المبدع الدكتور ممدوح حمادة لا يمكن أن تمل من مشاهدته مرات ومرات ليس لأنه مليء بأجمل أنواع الكوميديا الطبيعية، بل لأنه، كما يبدو من أحداثه وشخصياته، وكما أكد لي الكاتب نفسه، يقدم ملخصاً دقيقاً لطبيعة المجتمعات العربية، رغم أنه يصور واقع الحياة في قرية وادعة في محافظة السويداء السورية (محافظتي). المسلسل ينطلق من قرية مسماة «الخربة» ليسلط الضوء على كامل ما يسمى العالم العربي «الخربان».
وقد نجح الكاتب طبعاً في تسمية ذلك العالم التعيس بـ»الخربة»، لأنه عالم خرِب منهار على كل صعيد، بدليل أن الذين يحكمونه هم من أمثال أبو نايف وأبو نمر، وهما عجوزان خرفان أميّان لا يمتلكان شهادة ابتدائية، مع ذلك فهما يديران «الخربة» بكل تفاصيلها ويتحكمان بكل مفاصلها وقضاياها وسكانها، ويسيطران على سكان القرية الممثلين بعائلة أبو مالحة وعائلة أبو قعقور، وهما بالطبع تمثلان الشعوب العربية المستعبدة.
لا شك أن كل من شاهد المسلسل وعددهم بالملايين داخل العالم العربي وخارجه لأنه يمس واقع العرب أينما كانوا، لا شك أنهم قد لاحظوا أن لا قيمة في المسلسل أبداً لمكونات سكان القرية «الخربانة»، فالمثقف والحزبي والطبيب والسياسي والأستاذ والطالب والفنان وبقية المكونات من نساء ورجال لا قيمة لهم مطلقاً، فهم مجرد نكرات وتوابع لعجوزين أميّين ومريضين ونرجسيين ووضيعين ومنحرفين لا يتقنان سوى فن الكذب وفبركة العنتريات والبطولات الوهمية واللف والدوران و»اللوفكة» بلهجة أهل السويداء، وفرض إرادتهما على سكان القرية اعتماداً على مقومات واعتبارات وقيم بالية وبائدة أكل عليها الدهر وشرب. وقد شاهدنا كيف أن أبا نمر وأبا نايف يعاملان المثقف اليساري والماركسي (ملحم) ورفيقه جميل باحتقار ودونية، مع أن العجوزين الجاهلين لا يستطيعان حتى تهجئة أي مصطلح ماركسي أو لينيني كـمصطلح «البروليتاريا» أو (الديماغوجيا)، فما بالك أن يفقها أو يفهما أية أيديولوجيا أيا كانت، ولطالما سمعنا أبا نايف وهو يصارع كي يلفظ كلمة من المصطلحات الحزبية أو السياسية، حتى أنهما لا يميزان بين المظاهر والمظاهرات ولا بين الطوارئ والطوارق، مثلهم مثل راعي «العجال» فياض. كما يتعامل أبو نايف وأبو نمر مع الدكتور عاطف أو الدكتور فوزي بفوقية واستعلائية لأنهما يعتبران نفسيهما علية القوم، مع أن هذا الرهط الحاكم يجب أن يُشار إليهم بسفلة القوم، ليس فقط بسبب أساليبهما الملتوية، بل لأنهما عملياً ينتميان إلى فئة الجهلة والمتخلفين علمياً وثقافياً واجتماعياً، ويحتميان فقط بمنزلتهما الاجتماعية المتوارثة أو المتفق عليها داخل المجتمع الذي يعيشان فيه.
هل تفعل الشعوب العربية التي مازال يحكمها ويقودها أمثال بو نمر وبو نايف ما فعله سكان قرية «الخربة» في نهاية المسلسل وتتمرد على الزعامات والقيادات البالية والساقطة والمتخلفة والمنحطة والجاهلة التي مازالت تتحكم برقاب الملايين؟
وفي واقع الأمر لم يخطئ ممدوح حمادة عندما سخر من طينة أبي نايف وأبي نمر، فهذا الرهط من الوجهاء الاجتماعيين مازال حاكماً ومسيطراً وسائداً في معظم البلدان العربية، حيث تجد الزعيم الاجتماعي شخصاً أميّاً جاهلاً لا يحمل أي شهادة ولم يقرأ يوماً كتاباً واحداً، ولا يستطيع أن يكتب حتى أسماء أولاده بشكل صحيح، مع ذلك فهو سيد القوم على أساس عائلي أو اجتماعي، ويجب على كل المثقفين والأساتذة والأطباء والمتعلمين أن يطلبوا رضاه ويسيروا خلفه مهما كانت قراراته متخلفة وغير مقبولة. كم ألف «أبو نايف وأبو نمر» لدينا في عموم ما يسمى العالم العربي؟ كم مرة شاهدنا أبا نايف وأبا نمر وهما يفرضان قرارات سخيفة على الأستاذ صياح والدكتور عاطف والناشط الحزبي ملحم وبقية مكونات المتعلمين والفنانين في «الخربة»؟ والويل كل الويل لمن يحاول أن يناقش العجوزين الخرفين في أية قضية، فالرأي الأول والأخير لهما في كل شاردة وواردة، فهما لا يستشيران أحداً ويستبدان بآرائهما ووجهات نظرهما تجاه كل القضايا، وفي أي مناسبة يجب أن يكونا على رأس أي وفد في الأفراح والأتراح، والبقية مجرد توابع يجب أن يسيروا خلفهما كالقطيع. وتذكرت وأنا أشاهد المسلسل، وكيف أن أبا نايف وأبا نمر يتحكمان بكل تفاصيل القرية، ويعاملان كل مكوناتها باحتقار واستعلاء، تذكرت أن معظم المجلات والصحف الأمريكية صنفتني شخصياً ذات يوم واحداً من أقوى مائة شخصية مؤثرة على مستوى العالم، فقال لي أحد الخبثاء في بلدتنا يومها حرفياً «والله حتى لو كنت أهم شخص في العالم، يجب عليك عندما تعود إلى القرية أن تمشي وراء أمثال أبي نايف وأبي نمر، ولا تخرج عن تعليماتهما و»شورهما»، وإذا ذهبت إلى حفلة عرس برفقتهما فيجب أن يدخلا قبلك إلى الصالة، وأن تسير وراءهما كما يسير الخروف وراء الراعي. حتى أن «الأهبل» ابن «بو نايف» أعلى منك اجتماعياً ولا يمكن أن يسمح لك أن تدخل قبله إلى أي مناسبة اجتماعية حتى لو كنت من أشهر المشاهير». ولا شك أن صاحبنا الخبيث كان على حق، فهذا الذي يحصل حتى اليوم في معظم ما يسمى بالعالم العربي، حيث مازال يحكم السفلة والجهلة والمنحطون والمتخلفون عقلياً واجتماعياً فقط لأنهم توارثوا الزعامة إما أباً عن جد، أو لأن المجتمعات مازالت كمجتمع «الخربة» ذليلة ومستسلمة لهذه النوعيات الرديئة من أمثال «أبو نايف» و»أبو نمر».
لكن والحق يقال، لم يبق سكان «الخربة» يسيرون ويأتمرون بأوامر ومشورة العجوزين الخرفين إلى ما نهاية، فقد شاهدنا في نهاية المسلسل كيف انتفض «بيت بومالحة» و»بيت بو قعقور» على زعيمي القرية، وأقاما عرساً جماعياً في ساحة البلدة دون حتى دعوة «أبو نايف» و«أبو نمر» إلى العرس. وشاهدنا احتفالاً مدوياً بالتحرر من سطوة وجيهي القرية اللذين كانا يتعاملان مع «الخربة» وسكانها بطريقة منحطة وساقطة، وكلنا كان قد شاهد كيف أوقع العجوزان خلال المسلسل بين عائلة «بو قععقور وعائلة بو مالحة»، وجعلا شبابها يتقاتلان عندما شعر بو نايف وبو نمر أن سكان القرية بدأوا يتململون ويخرجون عن طوق العجوزين، على أمل أن يحافظ الزعيمان على زعامتهما للقرية وذلك بدق الأسافين وخلق المشاكل بين سكانها على مبدأ «فرق تسد». وقد كان المشهد الأخير في المسلسل مؤثراً ورائعاً جداً، حيث وصل العجوزان إلى ساحة العرس، فوجدا أن الجميع وقد غادر، ولم يشاهدا سوى بعض العمال الذين كانوا ينظفون الساحة ويزيلون منها الكراسي وبقايا الزينة.
فهل تفعل الشعوب العربية التي مازال يحكمها ويقودها أمثال بو نمر وبو نايف ما فعله سكان قرية «الخربة» في نهاية المسلسل وتتمرد على الزعامات والقيادات البالية والساقطة والمتخلفة والمنحطة والجاهلة التي مازالت تتحكم برقاب الملايين في عصر السموات المفتوحة والانترنت ومواقع التواصل والموبايل والعولمة والقرية الكونية؟
المصدر: القدس العربي