صحافة

عن تأسيس "مدنية" ومؤتمرها في باريس

الأربعاء, 21 يونيو - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

موفق نيربية


قبل أي كلام آخر، يشكّل انعقاد مؤتمر تأسيس منظمة «مدنية» في باريس في السادس من حزيران/يونيو الجاري، الذي ضمّ ممثّلين لحوالي 150 منظمة مجتمع مدني سورية، حدثاً كبير الأهمية ويختزن من الإيجابية ما يبعث على التفاؤل، لكنّ هذا لا يمنع من تناول الموضوع من جوانب متعدّدة يمكن أن تعطي المشروع فرصة أكثر واقعية لتحقيق خطته.

تتمثّل أهدافه رسمياً في عناوين المؤتمر ومجريات أعماله في التقاط «الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري» وتطويرها، ووضع أجندة عملٍ لها، تتوازى وتتقاطع مع كلّ الجهود لإحياء سوريا وحلّ قضيّتها الشائكة المتعثّرة. وتستند تلك المطالبة المشروعة إلى سابقة قامت بها المرجعية الدولية، بعد مؤتمر سوتشي، وتشكيل لجنة لمناقشة الدستور، ثلثها الثالث بعد السلطة والمعارضة يتكوّن من ممثلّين للمجتمع المدني، تسمّيهم وتتوافق عليهم الأمم المتحدة مع الطرفين الآخرين. وفي الواقع كان أداء بعض المجموعة الثالثة متميّزاً وأكثر فاعلية من أداء الطرفين المتناحرين؛ وقد شارك بعض أعضاء تلك المجموعة في مؤتمر باريس المذكور.

لعلّ أوّل ملاحظة مهمة هنا تكمن في تقدّم «المدني» للتعبير عن ذاته في زمن انتصار «الأهليّ» الكبير، انتصار العائلة والعشيرة والمنطقة والطائفة والجماعة ذات العصبية، انتصار «العرف» الميليشياوي/العسكري والأمنيّ والمشيخيّ- الشفويّ والسلطاني والعصبوي، الذي يعيد المجد لعصر هيمنة «الطبيعة»، على الفرد الحالم بدور واستقلال، وحق بالتعبير وسيادة قانون ومواطنة ودولة حديثة. لذلك التقدّم إلى أمام معنى عميق، يكاد يكون استنهاضاً مستحيلاً للمستحيل.

الملاحظة الثانية تتعلّق بالأجواء المحيطة بالفضاء السوري في المستويات الدولية والإقليمية، وما بينهما من تقاطع وتنافر. فالولايات المتحدة وأوروبا وروسيا مشغولة بالحرب الأوكرانية، وبمنطقة التوتّر فائقة الأهمية في الشرق الأقصى مع الصين، وبالطبع بالانتخابات المتواترة، وتشغل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، بالخصوص تلك الانتخابات الأمريكية المقبلة التي تنذر بحرارة أشدّ من السابقات. تنسجم أهداف «مدنية» وأجندتها وخططها مع الطرف الغربي من الفضاء الدولي المذكور، بانتظاريته وسلبيّته من استعجال الأطراف الأخرى على حصاد موسم ما زال مجهولاً، وبموقفه الأكثر حزماً مع النظام السوري وآفاق التسوية والحوار معه.. ولا يُستَغرب ذلك الانسجام بين جسمٍ و»حاضنته» إذا استعرنا اللغة الدارجة.

على المستوى الإقليمي، جاءت أنباء «مدنية» بعد انعقاد مؤتمر قمة الجامعة العربية في جدة بأيام؛ وعلى الرغم من أن التخطيط للقاء باريس أقدم من ذلك، إلّا أن هنالك دلالة وعبرة في الأمر، تستوقف حتى من لا يريد التوقف. أرادت المجموعة العربية/ الإقليمية التطبيع مع نظام الأسد، والتوجّه نحو حلّ عُرفيٍّ للمعضلة السورية، (مثّل التعامل مع موضوع المخدرات واعتماد النظام عليها لاستمرار حياته، عن طريق يشبه الاسترضاء والاستبدال والتعويض وتجنّب التعثّر بالموضوع). جاء قرار ذلك التطبيع بعد تجارب سبقته، كانت الإمارات وتركيا من بين طلائعه. يغلب تأثير استنكاف الولايات المتحدة وإعراضها عن المنطقة إلى غيرها، مع استفزاز لأنظمتها، التي تختلف منزلتها بشكل دوري مع دورات الانتخابات. كانت الإمارات وتركيا أوّل من ردّ على ذلك بسياسات أكثر استقلالاً، ثمّ كرّت المسبحة، بالخصوص مع الاستراتيجية السعودية، التي تبلورت مع وليّ العهد وخططه الطموحة، أصبحت خطوات التطبيع تلك إنذاراً نهائياً لا يتردّد بالتعبير عن نفسه، قائلاً بنهاية الربيع العربي وزمن الثورات وأيام الحلم العربي بالتعبير عن الإرادة الحرّة. جاءت الخطوة «المدنية» في هذا الجوّ الإقليمي السلبي، الذي يفتقد إلى من يعارضه.


نقطة ضعف السوريين الرئيسة في معارضتهم الرسمية، التي تآكلت مصداقيتها بشكل مستمر على سنوات، مع فقدانها لاستقلاليتها وفاعليّتها وأهليّتها. أصبحت القوى الخارجية أكثر تحكّماً بمسار الوقائع على الأرض، وكذلك بالعملية السياسية التي تماوتت بالتدريج. هنا كان لمنظمات المجتمعات المدني أن تزيد من حركتها في المناطق الأساسية الثلاث، انطلاقاً من وجود على الأرض أو دفعٍ من أماكن تمركز محيطة بالبلاد، قريبة وبعيدة. هنالك ضعف وخلل متفاوت في السلطات المتحكمة بتلك المناطق الثلاث (النظام والشمال الغربي والشمال الشرقي)، يبعدها عن مواصفات «الدولة»، ولا يعصمها عن الاستبداد بالأمر. ينعكس هذا الضعف قيوداً أو انفتاحاً على عمل منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، وقد تعرّف السوريون عن قرب على تلك الإمكانيات؛ ربّما للمرة الأولى في تاريخهم الحديث؛ بدرجة قوتها وتنوّعها واستقلاليّتها. ربّما يكون لهذا «الخلل» وجه إيجابي الآن وفي المستقبل، إذ يجعل نخبة رائدة من السوريين، أكثر وعياً وعلماً وحداثة، وأكثر جدارةً بإرث العام الأول من ثورتهم أو انتفاضتهم، على تماسٍ مباشر مع واقع بلادهم وحاجاتها، سواء كانوا قد انتموا إلى بلادٍ أخرى أيضاً، أو ما زالوا على انتمائهم شكلاً ومضموناً، جغرافياً وحياتياً. يعطي هذا للمجتمع المدني السوري الحديث؛ رغم ما يعتوره من إشكاليات؛ دوراً سياسياً يستطيع القيام به، يعوّض عن ضعف المجتمع السياسي، بل إنه قد يسهم بشكل غير مباشر في إعادة بنائه على أسس مختلفة أيضاً. لذلك تأتي مبادرة «مدنية» لتضفي على المشهد السوري نوعاً من الانتعاش، وإن لم يخلّ الأمر من ملاحظات قد تتضاءل مع الزمن والممارسة، ولعلّ النقطة الأكثر سلبية في ذلك هي تركيز التمثيل على قضايا الشمال الغربي والمنظمات العاملة فيه، وعلى عملياته الميدانية، بأكثر من تلك التي تنشط في المناطق المحكومة بالنظام، أو في شمال وشرق البلاد. ينبع خطر ذلك من كونه قد يعزّز ظاهرة التفتّت والانقسام بين تلك المناطق، بدلاً من تعبيد طريق إعادة توحيدها، ولا يكفي الرضا التركي تبريراً لمثل هذا النقص إن كان صحيحاً. كما أن الدعم والمبادرة الجريئة من رجال الأعمال الأقوياء في المهجر منبعُ قوة لها، يعصمها من تدخّل الحكومات ربّما، وينطلق من جوهرها وحداثة مثلها وتركيبها؛ لكنّه قد يصبح في بعض اللحظات وعند احتدام وتصارع الخيارات مسألة من نوع «تضارب المصالح»، قد تعيق حركة وفاعلية وشرعية تلك القوة الناشئة.

صحيح أن هنالك في مناطق النظام «مجتمعاً مدنياً» مشوّهاً، افتعلته العائلة الحاكمة وتمّ تصنيعه كأداة جديدة للحكم والتحكّم، أكثر تطوراً – كما يظنون- من مؤسسات رامي مخلوف السابقة التي كانت تخلط بين «المدني» و»الأهلي» و»العسكري» و»الاقتصادي»، وفيها ما فيها من عصبوية وفساد وتشويه للمفاهيم، اعتاد عليها السوريون لنصفَ قرن، ولكن كان يمكن أن تنعكس مواضيع تلك المنطقة والمهام اللازمة فيها وأدواتها على ما صدر ووصلنا من مجريات مؤتمر»مدنية».. إلّا إن كان هنالك شيءٌ لم نعرفه يمكن أن يغطّي تلك الثغرة. كان تمثيل المنظمات العاملة الشمال الشرقي في المؤتمر ضعيفاً بالتأكيد، رغم كونها كثيرة وعلى درجة من الفاعلية والنشاط كبيرة ومتميّزة. في مطلع هذا العام – مثلاً- كان هنالك مؤتمر لها على الأرض، جمع حوالي مئة وثمانين منظمة، وتأسس «تحالف» لا بدّ من التعاطي معه.. لم نسمع شيئاً عن ذلك أيضاً. كذلك لم يكن واضحاً منطلق اختيار أعضاء «مجلس الإدارة»، الذي بدا وكأنّه اختيار مسبق الصنع، مع أن إمكانية مختلفة للديمقراطية كانت ممكنة وغير معقدة وأكثر إيجابية أيضاً.

رغم ذلك.. لا بدّ من الترحيب والتفاؤل بالخطوة الرائدة، هي «ساعة خير» نحن بانتظار المزيد من أخبارها ونتائجها، لعلّ ذلك يساعد بعض القديم على أن يتلاشى، وبعض الجديد على أن يتفتّح!

المصدر: القدس العربي

الوسوم :