عمر قدور
من باريس أتت في الأيام الأخيرة الأخبار السورية غير الرتيبة، ففيها عُقد قبل أسبوع مؤتمر منصة "مدنية" الجامعة لما يزيد عن 180 منظمة مدنية سورية، ومن مكان إقامته في باريس أطلق مناف طلاس قبل ثلاثة أيام "رسالة إلى الشعب السوري". نضيف إلى الحدثين لقاءين آخرين سيُعقد واحد منهما في باريس أيضاً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، بينما سيُعقد الثاني خلال أيام في مدينة أوروبية أخرى، والمصادفة "وحدها؟" تشير إلى احتمال صدور مبادرة "وثيقة-بيان" عن اجتماع باريس، بينما الاجتماع الثاني ما يزال في طور تداول الأفكار.
أطلق العميد مناف طلاس رسالته بصفته "قائد المجلس العسكري السوري"، والمجلس المذكور أثار لغطاً حول الإعلان عن أنشطته قبل شهور، ثم تلاشت الضجة التي رافقت ظهوره. وكان المجلس، في 25 أيار الفائت، قد أصدر بياناً على خلفية التطبيع العربي مع الأسد، انتقد فيه المعارضة التي "لم يبقَ لها إلا أدوارها الوظيفية"، مؤكّداً على "أن ثورة الشعب السوري أصبحت حركة تحرر وطني، ومن حق جميع السوريين العمل على إسقاط النظام الغاصب وبناء دولة القانون والعدالة والديموقراطية، وذلك من خلال جميع الوسائل الممكنة والمشروعة". لينوّه البيان في فقرته الأخيرة بالمواقف الدولية الرافضة لتسويق الأسد وإعادة تعويمه، وفي مقدمها الموقف الأوروبي والأمريكي.
في حوار نُشر في جريدة القدس العربي، حول رسالته التي حملت مضامين بيان المجلس وأتت كأنما بهدف إعطاء زخم إضافي له، أكّد طلاس على أن "الدعم الداخلي والخارجي موجود دائماً وخاصة من ناحية تقبّل المشروع والحاجة إليه". والرسالة المتضمنة في وجود الدعم الخارجي واضحة جداً، ونميل إلى تصديقها، فالغاية منها القول أن مشروع المجلس العسكري يحظى بمصداقية لدى قوى فاعلة في سوريا؛ تحديداً الولايات المتحدة وأوروبا. ما يجعلنا نميل إلى التصديق، من دون مبالغة، أن طلاس بعد مغادرته سوريا نأى بنفسه عن أطر المعارضة السياسية والعسكرية، رغم صعودها آنذاك والعروض التي قُدِّمت له ليكون من ضمنها، ولا يستقيم منطقياً أن يرفض ما كان يحظى بالدعم ليعود إلى الساحة بلا دعم؛ هذا لا ينسجم أيضاً مع ما هو معروف عنه.
لم تنل رسالة طلاس الانتباه الذي ربما كان يتوخّاه، وهو ما يعود إلى حالة اليأس العامة في أوساط السوريين، والتي تجعلهم مُضرِبين عن التفاعل، وحتى عن المتابعة. نسجّل مثلاً أن قولاً عنصرياً تجاه السوريين، منسوباً إلى اللبنانية نضال الأحمدية، أثار تفاعلاً على وسائل التواصل الاجتماعي يفوق ما أثاره العديد من الأحداث السورية أو المؤثّرة سورياً. في المعلن على الأقل، مرَّ بقليل جداً من التفاعل مؤتمر منصة "مدنية"، وأقلّ منه التفاعل مع رسالة طلاس. هذا في العلن، أما في العالم الموازي لوسائل التواصل، عالم المجموعات وغرف المحادثة المغلقة، فقد حضرت أخبار المنصة والرسالة مع غلبة التحفظ والتشكيك إزاء الاثنتين، من دون اتخاذ مواقف عدائية منسّقة يحملها إلى العلن أفراد من تلك المجموعات، حتى الآن.
ولو شئنا التعبير بصرامة، لما رأينا اليأس مبرراً كافياً لعدم خوض نقاش عام حول الحراك الجديد، ونذكر هنا أن طلاس في حواره مع "القدس العربي" ينوّه بأن رسالته وما يعتبره تحركاً للمجلس العسكري هما من ضمن حراك سوري يحدث الآن، وأشرنا إلى جزء منه في مستهل المقال. لقد طالب سوريون منذ سنوات بالحراك السياسي، خارج أطر المعارضة المعروفة، وطالبوا بأن يكون تواجده بعيداً عن القوى الإقليمية التي تُمسك بأطر المعارضة، وطبّعت أو في طريقها إلى التطبيع مع الأسد. واليوم ثمة حراك سوري بين الولايات المتحدة وأوروبا، قد لا يكون هو المنتَظر أو المأمول، لكن تركه خارج النقاش لن يساهم في جعله أفضل، أو في التمهيد للأفضل.
من أسباب التحفّظ المسبق بروز التساؤل عمّا يريده طلاس وأيمن الأصفري، والسؤال التقليدي: لماذا الآن؟ الأول منهما كان مقرّباً من بشار الأسد، وابناً لوزير الدفاع الأطول مدة خلال حكم العائلة، أما الثاني فهو ثري سوري مغترب دخل في أعمال ومقاولات في سوريا قبل الثورة، ساعدته عليها علاقة جيدة ببشار الأسد، ويقول مقرّبون منه أن استثماراته كانت هي المدخل لتلك العلاقة التي لا مفرّ منها لأي مستثمر، وأنها شهدت فتوراً لمطالبته يوماً بإطلاق سراح المعارض الراحل ميشيل كيلو.
رغم أن ثروة الأصفري ليست محل استهجان، كالثروة الضخمة التي يُتوقّع أن يكون مناف قد ورثها من أبيه، فإن المناخ السائد لدى السوريين يميل بشدة إلى هجاء الثراء ولا يثق بأصحابه، مع ندرة شديدة جداً من الأثرياء الذين قدّموا للفضاء العام نموذجاً يستحق الاحترام. في الأصل قضى انقلاب البعث على فلول الإقطاع وبدايات البرجوازية الوطنية، ولم يبقَ في الساحة سوى أثرياء السلطة وقلة من الأثرياء القدامى قبِلت بشروط اللعبة وبالشراكة مع حيتان السلطة الجديدة في عهدها الأسدي. ذلك يفتح على السؤال عن مصادر التمويل "الوطني" المحكومة تماماً بهذا الواقع، وحيث يكون البديل تمويلاً خارجياً لا ينجو بدوره من التساؤل عن مراميه "الخبيثة". جدير بالذكر أن الأخير ألقى عليه كثر مسؤولية إفساد المعارضة، عبر تمويل هياكلها السياسية والعسكرية ومنظمات المجتمع المدني!
ومن التحفّظات الأخرى على طلاس والأصفري القول أنهما يسعيان إلى السلطة، وفي حوارين منفصلين للاثنين، نشرتهما جريدة القدس العربي في السادس والتاسع من هذا الشهر، نفى كلّ منهما أن يكون طامعاً في السلطة إذا أزيح الأسد عنها. وهذه كما نعلم تهمة سورية تقليدية، دأب على ترويجها إعلام الأسد ومخابراته كأنها وصمة، بينما دأب على نفيها المعارضون منذ عهد ما قبل الثورة! وليت الاثنين أو واحداً منهما قال أنه يريد الوصول إلى السلطة، وأن هذا حقٌّ له ولأيّ سوري آخر ضمن التنافس الديموقراطي المنشود. لو فعل أيّ منهما ذلك لقدّم للمتابعين تمريناً ذهنياً مختلفاً عن التشكيك في صدق ما يقول، تمريناً ربما يساعد على تخطي التكاذب المعمم في ما يخص التعفف عن السلطة. ومن الطريف أن يُتّهم الأصفري بإنشاء تكتل لمنظمات المجتمع المدني ينحرف بها إلى ممارسة السياسة التي ينبغي ألا تخوض فيها، رغم أن فرنسا التي انعقد فيها لقاء "مدنية" تقود فيها النقابات حالياً أقوى عملية اعتراض "سياسية في الجوهر"، مع تراجع ملحوظ في فعالية الأحزاب التقليدية.
بالتأكيد لن نضع نفسنا في معرض تبديد التحفظات على طلاس والأصفري، بل نفضّل الانطلاق منها ومن تصديقها، فنفترض أننا أمام حالتين لطامحين إلى السلطة، لديهما الثروة والدعم الخارجي. وعلى ذلك، فليطرح أفراد "حزب الكنبة السوري" الأوسع انتشاراً على أنفسهم الأسئلة الواقعية حقاً، لا الصورة الافتراضية لما ينبغي أن تكون عليه المعارضة والتي يكذّبها الواقع المزري لهياكلها الموجودة. وربما، لو فعلوا، يكون بين الأسئلة الأولى: لماذا لا يتنازل بعضٌ من أصحاب العفة والعصمة بالدخول في ميدان العمل، بدل الاسترخاء على الكنبة وانتظار مجيء "معارضة الأحلام" على فرس أبيض؟
المصدر: المدن