صحافة

من درعا إلى وادي بنجشير

الأربعاء, 8 سبتمبر - 2021
كانت غرفة الموك تمثل التزاماً أمريكياً لفصائل الجنوب ودرعا
كانت غرفة الموك تمثل التزاماً أمريكياً لفصائل الجنوب ودرعا

عمر قدور 


صباح الاثنين أعلنت حركة طالبان سيطرتها التامة على وادي بنجشير، بعد أيام لم تتجاوز الأسبوع من الإعلان عن محاصرته تمهيداً لاقتحامه. في الوقت نفسه، كانت محاولات اقتحام درعا البلد تبوء بالفشل، رغم مواصلة استخدام تغطية نارية هي الأعنف على بقعة جغرافيا ضيقة، وغير محمية بتضاريس طبيعية. وقد صار معلوماً أن الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد ودعم عسكري مباشر من طهران، تخوض هذه الحملة منذ ما يقارب الثلاثة شهور، تعرضت خلالها لأكثر من فشل مهين.

قبل نحو ثلاثة أسابيع، كان أحمد مسعود قد تعهد بقتال طالبان التي سيطرت على أفغانستان باستثناء الوادي الذي يتحصن فيه، وطلب مساعدة الغرب في مقالين، الأول في "واشنطن بوست" الأمريكية والثاني في مجلة "لا ريغل دو جو" الفرنسية. بقي وادي بنجشير عصيّاً على طالبان أثناء الفترة الأولى لحكمها، كما كان قد استعصى على الاحتلال السوفيتي، وإذا صح إعلان طالبان السيطرة عليه يكون سقوطه السريع بمثابة مفاجأة لا تكشف فقط عن ميزان قوى ميداني.

خاطب أحمد مسعود أمريكا وأوروبا، خاطب فيهما قيم الديموقراطية والحريات، فلم تكترث الحكومات الغربية برسالتيه. تُرك الوادي الذي اكتسب سمعة العَصيّ على الغزاة وحيداً محاصراً، ليكون سقوطه أو استسلامه مسألة وقت، خاصة مع النسخة الجديدة من طالبان التي اكتسبت خبرة قتالية عالية تُوِّجت باستيلائها على العتاد الأمريكي الحديث الذي كان ممنوحاً للجيش الأفغاني.

الأخبار الواردة من درعا، صباح الاثنين أيضاً، تفيد بموافقة المفاوضين باسم الأهالي على شروط للهدنة كانوا رفضوها من قبل، أي أن التفاهم الجديد فيه تنازلات إضافية على السابق الذي نقض التفاهم الأسبق، والحديث هنا عن التفاهمات الثلاثة التي أُبرمت خلال سبعين يوماً من الحصار. المحاصرون توقفوا عن طلب النجدة التي لن تأتي، لا من حوران نفسها ولا من خارجها، مع علم الجميع بأن النجدة المحلية "لو حدثت" ما كان لها أن تغيّر في النتيجة النهائية إذا لم يكن هناك سند دولي مؤثر.

انسحبت واشنطن من سوريا قبل ثلاث سنوات مع انسحابها من دعم جبهة حوران، ولولا رفع المظلة الأمريكية ما كان لقوات الأسد أن تستعيد سيطرتها شبه الكاملة على المنطقة. سبق لواشنطن أن انسحبت من الشمال السوري مسلِّمة أمر الفصائل التي تنشط هناك لأنقرة، ومكتفية بالشراكة مع قسد شرق الفرات ضمن هدف وحيد معلن هو محاربة داعش. بالتزامن مع الانسحاب العسكري والمخابراتي، تخلت واشنطن عن بذل أي جهد سياسي في الشأن السوري، رغم دأبها خلال سنوات على القول أن الحل في سوريا سياسي، واكتفت بمراقبة نشاط موسكو التي ابتدعت مسار أستانة ثم مسار اللجنة الدستورية غير المحكوم بإطار زمني.

لقد كانت غرفة الموك المشرفة على دعم جبهة حوران بمثابة التزام أمريكي، إزاء فصائل تلك الجبهة وإزاء الأردن الذي ينطلق الإمداد من أراضيه. فحوى الانسحاب الأمريكي هو إبقاء الحد الأدنى من القوات الأمريكية من دون التزام إزاء القوى المحلية، بما فيها قسد الشريك الوحيد المتبقي، فالإدارات الأمريكية منذ أوباما حتى بايدن لم تعلن عن أي التزام يخص قسد أو مستقبل المسألة الكردية في سوريا، بل شجعت في العديد من المناسبات التواصل بين الإدارة الذاتية والروس أو بشار الأسد وكأنها تمهّد للحظة الرحيل التي لم تتقرر بعد.

قُرئ السلوك الأمريكي في سوريا على نحو خاطئ، بدءاً ممن توسموا فيه خدعة لتوريط موسكو وطهران واستنزافهما، وصولاً إلى رؤيته كتعبير يائس من مآلات الربيع العربي ومن الشعوب التي ثارت على حكامها. قلائل الذين صدّقوا استراتيجية الانسحاب الأمريكي والتخلي عن الدور السابق كشرطي، وأقل منهم الذين توقعوا حدود الانكفاء الأمريكي. المفاجأة الأفغانية كشفت ما لم ينكشف من قبل بانسحاب "صامت صغير" من سوريا، و"العزاء" أن دهشة الشركاء الأوروبيين بكيفية الانسحاب الأمريكي وما رافقه لم تكن أقل من دهشة باقي الأصدقاء والخصوم.

تأكيد بايدن على الاستراتيجية الجديدة لبلاده دقَّ المسمار الأخير في نعش التكهنات، وبات على كافة القوى كالمعتاد أن تضبط إيقاعها "كالمعتاد" على الإيقاع الجديد لواشنطن، سواء كانت هذه القوى متضررة من النهج الجديد أو مستفيدة منه. ولا شك أن القوى المستفيدة، من الطراز الروسي أو الإيراني، تتلهف لحصد المكاسب بملء الفراغ الذي تخلّفه واشنطن وراءها هنا وهناك، ومن المرجح ألا تلقى سوى إدانات أمريكية من باب تسجيل موقف لا أكثر. هكذا، على سبيل المثال، كان رد فعل إدارة بايدن على تكثيف الهجمات الحوثية على الأراضي السعودية مؤخراً، فاكتفت الإدارة بتنديد معتدل اللهجة رغم التعهد السابق بضمان الأمن المباشر للحلفاء القدامى في المنطقة.      

الإعلان الأهم هو أن واشنطن لن تتدخل في أي بلد من أجل تغيير الأنظمة أو نشر الديموقراطية، وستلحق بها أوروبا سريعاً لأنها في الأصل لم تطور أدوات تدخل مستقلة. الإرهاب وحده، إذا مسّ الأمن القومي الأمريكي، سيكون حافزاً للعمل العسكري الذي سيكون متخففاً من الوجود على الأرض. أما أوروبا فتواجه معضلتي الإرهاب واللاجئين، من دون امتلاك استراتيجية خاصة ناضجة لمواجهة الاثنين، ما سيرجّح فيها كفة التيارات المعادية للمهاجرين والمؤيدة للاستبداد ولبوتين وطهران إذا أحسن هؤلاء استخدام قوتهم لقمع الشعوب ومنعها من اللجوء. 

لن تكون هناك آذان لسماع أصوات الثائرين أو المسحوقين هنا أو هناك، من درعا إلى وادي بنجشير وسواهما، ولن يتدخل الغرب " وفق مصالحه ضمن الأمد المنظور" لحماية المستهدفين في الحد الأدنى من حقوقهم أو آدميتهم أو المستهدفين بالإبادة. لم يعد هناك عنوان لتلك الشكاوى المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان، وكأن عصر الليبرالية السياسية قد انتهى لأولئك الذين لم يصلوا إليه بعد. ما كان صعباً جداً من قبل سيتوجب البحث عن إجابات جديدة مختلفة له، إذ سيكون على الشعوب مواجهة حكام مدعومين بفظاظة ووقاحة من قوى أو إقليمية، في حين تفتقر هذه الشعوب لأي سند خارجي فوق تنوعها الذي ينعكس نقمة عليها. الإجابة عسيرة جداً، أقله في المدى المنظور، لكنها قد لا تكون مستحيلة، ففي كل مرة يرينا التاريخ سذاجة المحتفلين بنهايته.


المصدر: موقع "المدن" اللبناني