الشأن التركي

الانتخابات التركية: الجولة الثانية يمكن أن تفكك تحالف المعارضة

الاثنين, 22 مايو - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

في 14 أيار/ مايو 2023، شهدت تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية عدّها كثيرون الأهم في تاريخ الجمهورية التركية، نتيجة الاستقطاب السياسي الذي جرت في ظله، ومستوى الاهتمام الإقليمي والدولي بنتائجها. وقد سجلت الانتخابات نسبة مشاركة غير مسبوقة. وفي حين فاز تحالف الجمهور الحاكم، بزعامة حزب العدالة والتنمية، بأغلبية مقاعد البرلمان (322 مقعدًا من أصل 600)، بعكس ما أشارت إليه استطلاعات الرأي العام، فإن الانتخابات الرئاسية لم تحسم لصالح أي من المرشحين، رغم تقدّم الرئيس رجب طيب أردوغان بفارق واضح على أقرب منافسيه، في انتظار جولة إعادة يوم 28 أيار/ مايو 2023.

نتائج الانتخابات

تنافس في الانتخابات أربعة مرشحين رئاسيين، و24 حزبًا توزع معظمها على خمسة تحالفات رئيسة خاضت معركة البرلمان. وقد سجلت الانتخابات نسبة مشاركة مرتفعة تخطّت 88 في المئة في تركيا، وبلغت 53 في المئة بين الأتراك في الخارج، وقد عكست هذه النسبة غير المسبوقة عمق الانقسام السياسي في تركيا من جهة، وتقارب الفرص، ومن ثم، الشعور بأهمية الصوت وتأثيره من جهة أخرى. مع ذلك، لم تشهد الانتخابات أحداثًا أو خروقات تقدح في نزاهتها، باستثناء انسحاب أحد المرشحين الرئاسيين قبل يوم الاقتراع بعد تهديده بنشر تسجيلات فاضحة له. وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وُجهت لوسائل إعلام محسوبة على الحكومة، وكذلك للّجنة العليا للانتخابات بخصوص طريقة إعلان النتائج، فإنه لم يشكك أحد في العملية الانتخابية وفي نزاهتها، وبدأت الاستعدادات لجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية في الثامن والعشرين من الشهر الجاري. وقد أدى ذلك إلى تراجع المخاوف بشأن حالة الاستقرار في البلاد، بعد أن صدر عن المعارضة إشارات توحي بإمكانية رفضها النتائج واللجوء إلى الشارع.

أسفرت نتائج الانتخابات الرئاسية عن تقدّم الرئيس التركي ورئيس حزب العدالة والتنمية ومرشح تحالف الجمهور رجب طيب أردوغان في الانتخابات بفارق 5 نقاط عن أقرب منافسيه رئيس حزب الشعب الجمهوري ومرشح تحالف الشعب المعارض كمال كليجدار أوغلو، بينما حلّ سنان أوغان ثالثًا بفارق كبير جدًا، وكان المرشح الرابع محرم إينجه انسحب من السباق الانتخابي.

وحلّ أردوغان الأوّل في 51 محافظة منها 14 مدينة كبرى يتركز أغلبها على سواحل البحر الأسود ووسط الأناضول، بينما تقدّم كليجدار أوغلو في 30 محافظة منها 16 مدينة كبرى، يقع أغلبها على الشريط الساحلي الغربي (معقل حزب الشعب الجمهوري)، وجنوب شرق البلاد (معقل حزب الشعوب الديمقراطي)، بينما لم يحلّ المرشح الثالث في المرتبة الأولى في أي محافظة.

يشترط قانون الانتخاب التركي حصول الفائز بالرئاسة على نسبة 50 زائد صوت واحد، ولذا لم تحسم الانتخابات الرئاسية في جولتها الأولى، وأعلنت اللجنة العليا للانتخابات عن إجراء جولة إعادة بعد أسبوعين من يوم الاقتراع. كما أسفرت الانتخابات التشريعية عن حصول تحالف الجمهور الحاكم على أغلبية بسيطة في مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) بواقع 322 مقعدًا، مقابل 278 مقعدًا موزعة على التحالفَيْن المعارضَيْن: الشعب بواقع 213 مقعدًا والعمل والحرية بواقع 65 مقعدًا. وقد حلّ تحالف الجمهور الأوّل في 58 محافظة، وتحالف العمل والحرية في 13 محافظة، وتحالف الشعب في 10 محافظات.

دلالات النتائج

تبرز نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية سمات عامة، أهمها:

• ثبات الخريطة السياسية والحزبية إلى حد بعيد، على صعيد التيارات والقوى السياسية والأحزاب الكبيرة الممثلة في البرلمان.

• تراجع حزب العدالة والتنمية على نحو ملحوظ، إذ إنه فقد 7 نقاط مقارنةً بالانتخابات الأخيرة عام 2018 (35.58 مقابل 42.52) وهو تراجع مستمر منذ الاستفتاء على النظام الرئاسي عام 2017 على أقل تقدير. والمهم أنّ التراجع الأساس سُجّل في المدن الكبرى.

• تنامي قوة التيارات القومية في البلاد في مختلف التحالفات، بما في ذلك تحالف الجمهور، حيث وصل مجموع الأصوات التي حصلت عليها أحزاب الحركة القومية والحزب الجيد والاتحاد الكبير والنصر على ما يقارب الـ 23 في المئة من الأصوات. يضاف إلى ذلك أن الأحزاب الكبرى ذاتها، أي العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري باتت تميل أكثر إلى تبنّي خطاب قومي في كل ما يتعلق بعظمة تركيا ومكانتها، والتشديد على العلاقة ببلدان ما يسمى "العالم التركي". 

• تزايد أهمية الأحزاب الصغيرة في المشهد السياسي التركي نتيجة تراجع قوة الأحزاب الكبيرة التي لم تعد قادرة على إحراز الأغلبية بمفردها، لا سيما حزب العدالة والتنمية.

• زيادة التنوع تحت قبة البرلمان بوجود نواب عن 15 حزبًا سياسيًا، بعد فوز مرشحين عن عدة أحزاب صغيرة على قوائم الحزبين الكبيرين: العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.

• وقد بدا لافتًا نشوء حالة من التوازن النسبي بين التحالف الحاكم وتحالف المعارضة، ما يشي بعمق الانقسام السياسي في البلاد. وقد انعكس ذلك في فشل الرئيس أردوغان في حسم الانتخابات الرئاسية لصالحه من الجولة الأولى، المرة الأولى منذ وصوله إلى الرئاسة عام 2014. كما أن عدد الأصوات التي حصّلها كليجدار أوغلو يعدّ غير مسبوق في سجلّ المعارضة التركية أمام أردوغان، ولكنه ظل أقل بكثير من توقعات الاستطلاعات التي ركزت عليها وسائل الإعلام الغربية وبعض وسائل الإعلام العربية.

• وفي البرلمان، حاز التحالف الحاكم أغلبية مطلقة، ولكن لم يستطع أيّ من الطرفين إحراز أغلبية ساحقة تخوّله التفرد بصياغة دستور جديد أو إجراء تعديلات دستورية، لا بصورة مباشرة عبر البرلمان (نسبة الثلثين) ولا حتى بعرض الأمر على استفتاء شعبي (نسبة 60 في المئة)، ما يعني أنّ أي تعديلات بخصوص النظام الرئاسي أو تفعيل فكرة صياغة دستور مدني للبلاد ستكون مرهونة بحصول توافق بين الجانبين، مع أن تحالف المعارضة بات أقل تجانسًا بعد دخول نواب من أحزاب محافظة على قوائم حزب الشعب الجمهوري، وهم سيكونون على الأرجح أقرب إلى أجندة حزب العدالة والتنمية وتحالفه النيابي في القضايا ذات الأبعاد الدينية أو الثقافية.

• وقد حسمت نتائج الانتخابات النقاش حول النظام السياسي في البلاد؛ ففشل المعارضة في الحصول على أغلبية البرلمان يعني ترحيل فكرة العودة إلى النظام البرلماني إلى الانتخابات القادمة.

• كان لافتًا أيضًا تقدّم كليجدار أوغلو على أردوغان في عدد من المدن الكبرى، في مقدمتها إسطنبول وأنقرة اللتان فازت بهما المعارضة في الانتخابات المحلية الأخيرة عام 2019. في المقابل، حلّ تحالف الجمهور بقيادة العدالة والتنمية الأوّل في معظم هذه المدن بما فيها إسطنبول وأنقرة. ويشير ذلك إلى دور التحالفات في الانتخابات الرئاسية في المدن الكبرى، خصوصًا "الصوت الكردي" أو القاعدة التصويتية لحزب الشعوب الديمقراطي. فقد حلّ كليجدار أوغلو الأول في معظم محافظات الجنوب والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية رغم أن حزبه حزب الشعب الجمهوري لم يفز إلا بمقعد واحد فقط فيها جميعًا. 

• لا شك في أنّ الأوضاع الاقتصادية مثّلت عاملًا رئيسًا في هذا التراجع، مع الأخذ في الاعتبار أيضًا عامل طول مدة رئاسة أردوغان والرغبة في التغيير، لا سيما لدى الجيل الشاب الذي لم يعرف رئيسًا آخر لتركيا.

• على صعيد الأحزاب الحديثة التأسيس، والمنشقة عن أحزاب كبيرة، فشل حزب البلد، بقيادة محرم إينجه، المنشق عن الشعب الجمهوري، في تجاوز عتبة دخول البرلمان وحقق نتيجة هزيلة (0.92 في المئة)، وقد تأثر الحزب بانسحاب رئيسه من السباق الرئاسي. بينما استطاع كل من حزب المستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو والديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان المنشقَّين عن العدالة والتنمية دخول البرلمان وحصلا على 14 و10 مقاعد على التوالي. بيد أن هذين الحزبين – ومعهما حزب السعادة الذي حصد 10 مقاعد - دخلا البرلمان على قوائم حزب الشعب الجمهوري ولم يخوضا الانتخابات على نحو منفصل، ما يجعل قياس حجم تأييدهما في الشارع أو وزنهما التصويتي، والذي يتوقع أن يكون منخفضًا، متعذرًا. ومن الواضح أن ثمة فجوة بين ما جلباه للتحالف من أصوات وبين عدد المقاعد التي حصلا عليها ما أدى إلى تململ داخل حزب الشعب لناحية دخولهما على حساب أصواته وفق ادعاءات المشككين في جدوى التحالف.

• في المقابل، شكّل حزب "الرفاه مجددًا" المتحالف مع العدالة والتنمية مفاجأة الانتخابات، إذ فاز مع حداثة نشأته بخمسة مقاعد في البرلمان بعد أن حصل على نسبة تقارب الـ 3 في المئة من الأصوات. ومن الواضح أن الحزب استفاد من تحالف الأحزاب المحافظة الأخرى مع الشعب الجمهوري وتراجع تأييد العدالة والتنمية، ليشكّل بديلًا لجزء من الشريحة المحافظة التي لم ترد التصويت للأخير لكنها لم تتحمس للتصويت لقوائم الشعب الجمهوري.

تداعيات النتائج

نتيجة استمرار حال الاستقطاب السياسي ورهانات كل طرف على استنفار قاعدة دعمه الانتخابي يتوقع أن تجري الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بالقدر نفسه من الحماس. مع ذلك، تبدو فرص الرئيس أردوغان أفضل بسبب الفارق الكبير في الأصوات التي حصدها مقارنة بمنافسه، وهو الفارق الذي يبلغ زهاء مليونين ونصف مليون صوت، وحصول تحالفه على أغلبية البرلمان ما قد يشجع على تصويت متناغم في الإعادة لتجنب الصدام بين الرئاسة والبرلمان، والمعنويات المتراجعة في صفوف المعارضة. مع ذلك يبدي بعض المراقبين المحسوبين على الحزب الحاكم تخوفات من أن تركن قاعدته الانتخابية إلى فكرة الفوز المحتّم وتتثاقل عن الخروج للتصويت في مقابل نجاح المعارضة في استنفار جمهورها.

وقد أحدثت النتائج صدمة في أوساط تحالف الأمة المعارض ما يرجّح عودة الخلافات السابقة داخله للعلن. حيث كانت رئيسة الحزب الجيد، ثاني أحزاب التحالف، ميرال أكشنار عارضت بشدة تقديم كليجدار أوغلو مرشحًا توافقيًا للتحالف من باب أنه غير قادر على هزيمة أردوغان، وأدى ذلك إلى انسحابها من الطاولة السداسية ثم عودتها إليها. وإذا تمكّن الرئيس أردوغان من الفوز في الجولة الثانية فالأرجح أن يؤدي ذلك إلى تفكك تحالف المعارضة. 

ويتوقع أيضًا حدوث بعض الارتدادات لنتائج الانتخابات داخل الأحزاب أيضًا، ومن بينها الشعب الجمهوري والحزب الجيد على وجه الخصوص. فكليجدار أوغلو كان فرض نفسه مرشحًا للانتخابات الرئاسية أولًا داخل حزبه رغم بعض المعارضة، ثم على أحزاب الطاولة السداسية وخصوصًا الحزب الجيد. ثم رَشّح على قوائم حزبه، أملًا في سحب البساط من تحت أقدام الحزب الحاكم، عددًا مهمًا من قيادات الأحزاب المحافظة، الخصوم التقليديين لحزبه، ما تسبب في انتقادات داخل الحزب. بناءً عليه، فإن عدم الفوز بأغلبية البرلمان ثم تكرار نتيجة الرئاسة سيتسببان في موجة من الاحتجاجات الداخلية ضده من جديد، وقد يكون ذلك سببًا في فقدانه رئاسة الحزب، رغم أن هذا يبدو قليل التوقع في الفترة القريبة القادمة.

خاتمة

ستبقى تركيا في أجواء الانتخابات حتى تاريخ الإعادة في 28 أيار/ مايو الجاري وصدور النتائج. ورغم النتائج التي حصل عليها المرشحون الرئاسيون في الجولة الأولى، فإن انتخابات الإعادة تعدّ مسارًا قائمًا بذاته يتطلب من المتنافسَيْن رسائل أوضح لاستمالة كتلة المترددين لحسم النتيجة، فضلًا عن تحفيز الناخبين للمشاركة بكثافة مرة أخرى، وهو تحدٍّ قائم بذاته. وسوف يعتمد جزء من النتيجة أيضًا على قرار المرشح الثالث في الجولة الأولى سنان أوغان في دعوة أنصاره إلى التصويت لأحد المتنافسين.