ثقافة

العتبات النصيَّة والرمز التراثي في مجموعة "يُروَى عن الدَّمع" لبسام مصطفى

الأحد, 5 سبتمبر - 2021
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

الطريق- عبدالحافظ كلش


عن دار شرفات للنشر والدراسات، صدرت المجموعة الشعرية (يُروَى عن الدَّمع) للدكتور بسام مصطفى، وجاءت المجموعة بثلاثٍ وثلاثين قصيدة وإهداء.

شعرية العنوان:

 يلجأ معظم الشعراء في العصر الحديث إلى تكثيف نصوصهم الشعرية بعنوانٍ جامعٍ ذي دلالة على ما في المتن من مُنجَزٍ شعري؛ فمنهم من يتعامل مع موضوع العنونة بالجهد الإبداعي نفسه عند إنتاج قصيدةٍ ما، والبعض الآخر يكتفي باختيار عنوان قصيدة من ضمن القصائد فيضعها عنواناً دالاً على كلِّ المحتوى، وبطبيعة الحال تتباين مقدرة الشعراء في ذلك.

لكنَّ بسام مصطفى آثرَ أن يسلكَ الطريقَ الأوَّل المُجهِد؛ كونه يعلم جيداً أهمية التسمية للمُنجَز المولود، ويدرك بوصفه شاعراً أنَّ العنوان هو العتبة المضيئة للنص المفرود أمام المتلقي؛ فلذلك جاءت التسمية المكثَّفة (يُروَى عن الدَّمع) جملةً فعلية يتصدَّرُها فعلٌ مبنيٌّ للمجهول، الفعل المليء بالغموض والدهشة والتساؤل عن سبب حذف فاعله، لتأتي تتمة الجملة [عن الدَّمع: جارٍّ ومجرور] موضحةً ـ ضمن حقل المعنى ـ سببَ غيابِ الفاعل الذي يروي ما جرى من حزنٍ ودمع دون أن يفصح عن ماهيته الحقيقية؛ لتبدأ لذة الاكتشاف والتأويل لدى القارئ المتقاطع والمتفاعل مع الراوي نفسِه بكمية الدَّمع ربَّما:

 هل يروي الدَّمعُ ذاتُه ماحلَّ بالعباد والبلاد من دمارٍ وتمزُّق، أم أنَّ الشاعرَ نفسَه سيروي ويوصِل لنا ما حدث، بينما هو متسترٌ ومتوارٍ خلف تقنيةٍ لغويةٍ ذكية؟

شعرية الإهداء:

يشكِّل الإهداء عتبة نصية مهمَّة مواجهة للقارئ في مجموعة "يُروَى عن الدَّمع" لما يحمله من أهميةٍ كبيرة في استقراء الدلالة:

" إلى الأرضِ التي تنتظرُ عيوننا للعودةِ إليها يوماً ما...

  إلى كلِّ الذين عبروا البحرَ وتركوا قلوبَهم خلفهم...

إلى الذين ضمَّهم البحر... فسكنتْ أحلامُهم قلوبَ الأسماك "

إذاً؛ فالإهداء لم يأتِ جملةً اسمية أو فعلية مبتورة، بل جاء في أشطره الثلاثة نصاً قصصياً ناضحاً بما سيُقرَأ في المجموعة الشعرية من قصائد، ودالاً على ما تكتنزه من سببٍ منطقيٍّ للدمع.

والمهدَى إليهم: للأرض/الوطن المتشوِّق لرؤية أبنائه، ثمَّ لأبناء الوطن المهجَّرين المنشطرين الذين ركبوا البحر وأصبحوا في الضفة الثانية منه بينما قلوبُهم مازالت في الديار، ثمَّ للذين أسعفهم الحظ قليلاً في النجاة من "الحرب" لكنَّه لم يسعفهم في تجاوز "البحر"؛ فأصبحت أحلامهم الناشدة للخلاص كامنةً في قلوب الأسماك!

وإذا أردنا أن نستخدم تقنية "تقويل النص/الإهداء" ومِن ثَمَّ إعادة التركيز على ما هو غير مُلاحَظ في القراءة الأولى ـ ضمن طيف المعنى المترائِي أمامنا ـ فسوف ننجذب إلى الأناقة اللغوية المستخدمة من قبل الشاعر في الإهداء، المتمثلة في الأشطر الثلاثة:

1-عدم تسمية المكان، والاكتفاء بكلمة (الأرض)؛ فليست هناك من حاجةٍ في تعريف المعرَّف (سوريا، الشام، الجزيرة الفراتية...) في الشطر الأوَّل.

2-عدم تحديد الزمان؛ إظهاراً للقلق والخوف والترقّب المسيطر على السوريين المهجَّرين، في الشطر الثاني.

3-استخدام كلمة (ضمَّهم) بدلاً من (ابتلعهم)، وكلمة (قلوب) بدلاً من (أمعاء)؛ وهذا يدل على حساسية شعرية عالية أراد الشاعر من خلالها أن يكون حذراً ولبقاً في تأريخ ذاك المصير المؤلم لأبناء وطنه، الذين ضاعت أحلامهم النبيلة بين أمواج البحر فالتقطتها قلوب الأسماك؛ وبقيت خالدة.

إذاً؛ جاء الإهداء محدِّداً لسياق القصائد أمام القارئ الذي سيستعين بالأشطر الثلاثة على مدى ثلاثٍ وثلاثين قصيدة. 

الرمز التراثي:

ما إنْ تطالعنا قصيدة (عودة تموز) حتى نكتشف ما هو أكثر عمقاً ودلالة من معنى شهر تموز؛ إنَّه الارتباط الواضح مع التراث والانتماء الضارب في القدم لحضارات ما بين النهرين، والتي تشكل المعادل الموضوعي للشاعر الغريب المنفي عن وطنه، والذي يتلمَّس:

 " صورة نفسه/ في نشرة الأخبار/ بين موتى الحرب.."

ثمَّة إشارةٌ أخرى في القصيدة نفسِها عن ملحمة جلجامش حين يتحول تموز إلى طائرٍ مكسورِ الجناح: 

" والأمنياتُ ذوتْ بنا/ صارت كتموزَ الذي كُسِرتْ جناحُه/ ثمَّ غَابْ.../فلا حصَادْ/ وبكلِّ عامٍ صار ينتظرُ العَذارى"

وفي القصيدة الثانية "ومازال في الليل بعضُ الغرام" لجأ الشاعر إلى استخدام كلمة النخيل؛ لما للنخيل من دلالة تراثية على الارتباط والجذور الممتدة بتراب الوطن؛ فالنخيل رمز الشموخ ومستودع الذاكرة والأصالة أمام كلِّ مستبدٍّ طارئ:

" حكاياتُنا/ لم تزلْ في النخيل" 

ويأتي استخدام آخر للنخيل في القصيدةٍ العمودية التي تحمل عنوان "الناسجون المدى وَشياً":

أسلمتُ نخلَ المُنى للريحِ تدفعُهُ

        لو تعرفُ الريحُ ماذا يكتمُ السَّعفُ 

وفي قصيدة أخرى:

" أنا لنْ أخاف.../ ولن أتركَ القمحَ/ في سنبلِ الوقتِ/ مهما تقولُ الرُّؤى/ إنَّ كلَّ الليالي عِجافْ/ /سأنثرُ للصبحِ ..وجهي/ وتورقُ عيني../ نخلاً.. وظلّا "

ختاماً: " يُروَى عن الدَّمع" مجموعة شعرية مليئة أيضاً بالحب والانتماء اللَّذَيْنِ سينتصران على الدَّمع في النهاية.